خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً
٦٩
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٧٠
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
٧١
إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
٧٢
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٧٣
-الأحزاب

تأويلات أهل السنة

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ }.
يقول عامة أهل التأويل: إن موسى كان لا يغتسل فيما يراه أحد؛ فقال بنو إسرائيل: إن موسى آدر، ويروون على ذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن بني إسرائيل طعنوا نبي الله موسى بذلك، فذهب ذات يوم يغتسل، فوضع ثيابه على حجر، فسعى الحجر بثوبه؛ فجعل موسى يعدو في إثره ويقول: [ثوبي] حجر - أي: يا حجر ثوبي - حتى مرّ به على ملأ بني إسرائيل؛ فعلموا أنه ليس به شيء، فذلك قوله: { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ }" ، وكان موسى يتأذى بما كانوا يطعنون؛ فعلى ذلك رسول الله كان يتأذى؛ إذا قالوا: زيد بن محمد؛ فأمروا أن يدعوه لأبيه، يقول: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 5] زيد بن حارثة، لكن هذا التأويل بعيد؛ لأن موسى كان يدعوهم إلى ستر العورة، لا يحتمل أن يطمعوا هم منه الاغتسال معهم، وأن يكشف عورته لهم، أو ينظر إلى عورة أحد، هذا وخش من القول أو يسلط حجراً، فيذهب بثيابه حتى يراه الناس متجرداً، والله أعلم.
وقال بعضهم: آذوه؛ لأنه كان خرج بهارون إلى بعض الجبال؛ فمات هارون هناك، فرجع موسى إليهم وحده؛ فقال بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته حسداً؛ فقال موسى: "ويلكم، أيقتل الرجل أخاه"؛ فآذوه، فذلك قوله: { لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ }؛ فجاءت به الملائكة فوضعته بينهم، فقال لهم: لم يقتلني أحد؛ إنما جاء أجلي فمت، فذلك قوله: { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ }.
هذا يشبه أن يكون - وغيره - كأنه أقرب وأشبه، وهو ما كان قوم كل رسول نسبوا رسولهم إلى الجنون مرة، وإلى السحر ثانياً، وأنه كذاب مفتر، ونحوه، على علم منهم أنه رسول الله، ولا شك أنهم كانوا يتأذون بذلك جدّاً؛ ولذلك قال:
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } [الصف: 5]: لا يحتمل أن يكون هذا في الأول؛ لأنهم لو كانوا علموا أنه ليس به ما ذكروا - لم يؤذوه؛ فدل أن أذاهم إياه فيما ذكرنا، وفي أمثال ذلك، وكذلك ما نهى قوم رسول الله من الأذى له؛ لما نسبوه مرة إلى الجنون، وإلى السحر ثانياً، وإلى الافتراء والكذب على الله ثالثاً، لا فيما ذكر أولئك.
{ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً }.
أي: مكيناً في القدر والمنزلة، والله أعلم.
وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }.
جائز أن يكون قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }، أي: اتقوا الشرك في حادث الوقت، { وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }، أي: ائتوا بالتوحيد في حادث الوقت؛ لأنه إنما خاطب به المؤمنين:
{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }.
أي: بالتوحيد؛ لأنه بالتوحيد تصلح الأعمال وتذكر، وبه يغفر ما كان من الذنوب، وبه يكون الفوز العظيم، وبالله التوفيق.
ويحتمل قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في الخيانة فيما بينكم وبين الخلق، أي: لا تخونوا الخلق.
{ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }، أي: صدقا وصوابا؛ أي: لا تكذبوا، ولا تقولوا فحشاً ونحوه.
ويحتمل { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ولا تعصوه، واعملوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر { وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }، ومروا الناس، وانهوا عن المنكر { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ... } إلى آخر ما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ } قد تكلف أهل التأويل تفسير هذه الأمانة المذكورة في الآية.
قال بعضهم: هي كلمة الشهادة والتوحيد.
ومنهم من قال: هي جميع الفرائض التي افترض الله على عباده.
ومنهم من قال: هي الصلاة، والصيام، والحج، وأمثاله، وجميع ما أمروا به ونهوا عنه.
لكن التكلف والاشتغال بالتكلم في ماهية هذه الأمانة المذكورة المعروضة على من ذكر - فضل، لا يجب أن يتكلف تفسيرها: أنها كذا،لأنها مبهمة، لا تعلم إلا بالخبر الوارد عن الله - تعالى - أنها كذا، وأن يجعل ذلك من المكتوم، ولا يشتغل بالتفسير، والله أعلم بذلك.
ثم اختلف فيما ذكر من عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وما ذكر من إبائها عن احتمالها والإشفاق:
فقال بعضهم: قوله: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ومن ذكر؛ أي: خلقنا خلقة ما ذكر من السماوات والأرض والجبال خلقة لا تحتمل حمل ما ذكر من الأمانة؛ { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } إباء خلقة؛ أي: لم يخلق خلقتها بحيث تحتمل ذلك، { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } أي: خلقنا خلقة الإنسان خلقة تحتمل ذلك؛ إلى هذا يذهب بعضهم.
وقال بعضهم: قوله: { عَرَضْنَا } حقيقة العرض، إلا أنه على التخيير بين أن تقبل وتتحمل وتفي بذلك فيكون لها الثواب، أو لا تفي فيكون لها العقاب في الآخرة، وبين ألا تتحمل ولا تقبل؛ فتكون كسائر الموات تفنى بفناء الدنيا: لا ثواب لها في الآخرة ولا عقاب، وإلا لم يحتمل أن يعرض عليهن ما ذكر عرض لزوم وإيجاب، ثم يأبين ذلك ويشفقن منها، وقد وصفهن الله بالطاعة له والخضوع في غير آي من القرآن؛ حيث قال:
{ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11] وقال: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ... } الآية [الحشر: 21]، وقال في آية { يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ } [الأنبياء: 79] وكذا، ونحوه، ولكن إن كان على حقيقة العرض فهو على التخيير الذي ذكرنا، { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ }، فكان له الثواب إن قام بها، وعليه العقاب إن لم يقم.
وقال بعضهم: قوله: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ }، أي: عرض على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال، فلم يحملوها، إلا الإنسان منهم فإنه حملها.
{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } قال الحسن: ظلوماً لنفسه، جهولا لأمر ربه.
وقال بعضهم: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }، أي: أبين أن يعصين الله وأشفقن منه؛ أي: لم يعصوا قط { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } أي: عصى الإنسان ربه؛ فيجعل الحمل كناية عن العصيان والوزر، يقول: لأنه ما ذكر في القرآن الحمل إلا في الوزر والخطايا؛ كقوله:
{ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ } [العنكبوت: 12]، وقوله: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13]، وقوله: { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [النحل: 25]، وقوله: { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [الشرح: 2، 3]، ونحوه كثير.
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } إلى أي تأويل من هذه التأويلات التي ذكرنا صرف هذا إليه - استقام، والله أعلم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: { ٱلأَمَانَةَ }: العبادة: قال الله - تعالى - للسماوات والأرض والجبال: تأخذن العبادة بما فيها،قلن: يا ربّ، وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }، أي: خفن، وعرضت على الإنسان فقبلها، وهو قول الله لبني آدم:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الأنفال: 27] أما خيانتهم الله ورسوله فمعصيتهما، وأمّا خيانة الأمانة فتركهم ما افترض الله عليهم من العبادة.
وقتادة: يقول: أما والله ما بهن معصية، ولكن قيل لهنّ: أتحملنها وتؤدين حقها؟ قلن: لا نطيق ذلك، فقيل للإنسان - وهو آدم - أتحملها وتؤدي حقها؟ قال: نعم { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } عن حقها.
وفي حرف أبيّ وابن مسعود وحفصة { فَأبَيْنَ } أي: فلم يطقنها.
وقال أبو معاذ: الإباء في كلام العرب على وجهين:
أحدهما: هذا، وهو العجز.
والآخر: قوله:
{ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ } [البقرة: 34] أي: عصى وترك الأمر.
والحسن يقول: عرضت الأمانة على السماوات وما ذكر، فقيل لهن: أتأخذن الأمانة بما فيها، قلن: يا رب، وما فيها؟ قيل لهن: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } لنفسه { جَهُولاً } بربه، وهو مثل الأول.
وقال بعضهم: كان ظلوماً لنفسه في ركوبه المعصية، جهولا بعاقبة ما تحمل.
والوجه فيه ما ذكرنا بدءاً أنه لا تفسّر الأمانة أنها ما هي؟ وكيف كان ذلك العرض على من ذكر من السماوات والأرض والجبال، وإباؤهن، وإشفاقهن؟ والله أعلم ما أراد بذلك.
وقوله: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ... } [على] من ذكر؛ أي: ليعذب من علم أنه لا يقوم بوفائها ويضيعها - أعني: الأمانة التي احتملها - وإنما ضيعها من ذكر من المنافقين والمشركين، ويثيب من لم يضيعها وقام بوفائها، وهم المؤمنون.
قال أبو عوسجة: السداد: الاستقامة؛ تقول: سددك الله، وأرشدك.
وقال أبو عبيدة: السديد: القصد.
وكذلك قال القتبي، والقصد كأنه العدل، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله أجمعين.