خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
٣١
ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٣٣
وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
٣٤
ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ
٣٥
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ
٣٦
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ
٣٧
إِنَّ ٱللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٣٨
-فاطر

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ }: يا محمد، { مِنَ ٱلْكِتَابِ }: وهو القرآن، { هُوَ ٱلْحَقُّ }: أنه من عند الله، { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: موافقاً للكتب التي قبله.
ثم يكون وفاقه إياها بأحد شيئين:
إما في الأخبار والأنباء: أن توافق الأنباء والأخبار التي في القرآن أنباء الكتب المتقدمة وأخبارها ويصدق بعضها بعضا، فكذلك كانت الكتب كلها داعية إلى توحيد الله والعبادة له والطاعة.
أو توافق الأحكام، فإن كانت الموافقة في الأحكام ففيها الناسخ والمنسوخ مختلفة؛ ألا ترى أن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، ثم أخبر أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، ولو كان الناسخ والمنسوخ خلافاً في الحقيقة لكان من عند غير الله على ما أخبر، فدل أن بينهما وفاقاً ليس باختلاف.
وقال بعضهم: إن محمداً يصدق ما قبله من الكتب والرسل، وهو ما ذكرنا: أن جميع الكتب والرسل: إنما دعوا الخلق إلى توحيد الله وعبادته.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }.
أي: { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } بما به مصالحهم، أو { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }، أي: على علم وبصيرة منه بتكذيب القوم رسلهم بعث الرسل إليهم لا عن جهل منه بذلك، وذلك لا يخرجه عن الحكمة كما قال بعض الملاحدة: إن ليس بحكيم من بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته، فهذا لو كان بعث الرسل لحاجة المرسل ولمنفعته يكون إرساله وبعثه إلى من يعلم أنه يكذبه ويردّ رسالته [عبثاً]، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - يتعالى عن أن يرسل الرسل لحاجة أو لمنفعة بل لحاجة المبعوث إليه والمرسل [إليه]؛ فلم يخرج علمه برده وتكذيبه عن الحكمة، والتوفيق بالله.
أو أن يكون قوله: { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } يخرج عن الوعيد، أي: عالم بأحوالهم وأفعالهم؛ ليكونوا أبداً على حذر ومراقبة، والله أعلم.
وقوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } هو ممن أخبر أنه اصطفاه للهدى من متبعي محمد، وهم أصحاب الكبائر في قول بعض.
وقال بعضهم: هم أصحاب الصغائر.
وقال بعضهم: هم أصحاب الصغائر والكبائر جميعاً.
ومنهم من يقول: هو في الناس جميعاً المتبع له وغير المتبع.
ثم اختلف في قوله: { ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ }:
قال بعضهم: هو المنافق الذي أظهر الموافقة لرسوله وأضمر الخلاف له.
وقال بعضهم: هم اليهود والنصارى، فقد آمنوا قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به.
وقال بعضهم: هم المشركون وقد أقسموا أنه لو جاءهم نذير:
{ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } [فاطر: 42].
فهؤلاء كلهم في النار، وما ذكر من الاصطفاء والاختيار على قول هؤلاء يكون لرسول الله؛ حيث بعث إليهم؛ ليدعوهم إلى توحيد الله.
والأشبه أن يكون قوله: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } من أمته من متبعي الرسول ما روي في الخبر عن أبي الدرداء رضي الله عنه - إن ثبت - قال:
"تلا رسول الله هذه الآية فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لن ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة، ثم قال رسول الله: وهم الذين قالوا: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ... }" . الآية [فاطر: 34] وكذلك روي عن أنس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ثبت عنه فهو تأويل الآية، وتفسير الظالم من أهل التوحيد والملة.
والمقتصد: قال بعضهم: هو الذي يخلط عملا صالحاً بعمل سيئ؛ كقوله:
{ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [التوبة: 102].
وقال بعضهم: هو الذي يقوم بأداء الفرائض والأركان وأما غيره فلا.
والسابق يخرج على وجهين:
أحدهما: سابق بالخيرات كلها لا تقصير فيه ولا نقصان.
أو سابق بالخيرات فيه تقصير ونقصان، وقد ذكرنا هؤلاء الفرق الثلاثة في غير موضع:
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ... } الآية [التوبة: 100]، ثم قال: { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } [التوبة: 102] { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [التوبة: 106]، فالذين اعترفوا بذنوبهم هم المقتصد، والآخرون هم الظالم لنفسه.
وقال في موضع آخر:
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } [الواقعة: 10-12]، وقال: { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } [الواقعة: 27-28] إلى آخر ما ذكر، وقال: { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } [الواقعة: 41] - ففي ظاهر هذا أن أصحاب الشمال المكذبون؛ حيث ذكر في آخر هذه السورة الفرق الثلاثة حيث قال: { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } [الواقعة: 88-92]، ففي ظاهر هذا أن الظالم لنفسه هو المكذب والكافر في قوله: { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } [الواقعة: 41] في ظاهر ما ذكر في سورة التوبة أنه من أهل التوحيد حيث قال: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ... } الآية [التوبة: 106]، والله أعلم بذلك.
وقوله: { بِإِذُنِ ٱللَّهِ }.
يحتمل: بعلم الله، ويحتمل: بمشيئة الله، وقيل: بأمره.
وقوله: { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }.
يقول - والله أعلم -: هذا الذي أورثناهم من الكتاب هو الفضل الكبير؛ كقوله:
{ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113].
أو يقول: إدخالهم الجنة فضل منه كبير.
وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال: "{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } قال: ألا إن سابقنا سابق، وإن مقتصدنا ناج، وإن ظالمنا مغفور له".
وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "ألا إن سابقنا أهل الجهاد منا، وإن مقتصدنا أهل حضرنا، وإن ظالمنا أهل بدونا".
وابن عباس - رضي الله عنه - يقول: "الظالم لنفسه كافر".
وعن الحسن قال: "الظالم لنفسه المنافق وهو هالك، وأما السابق والمقتصد فقد نجيا".
وقوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }.
ذكر التحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير، وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير، اللهم إلا [أن] يكون للعرب رغبة فيما ذكر، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقباب والغرفات، وذلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار، وعند عدم غيره من المنازل والغرف عند ضيق المكان؛ فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا، لكنه خرج ذلك لهم؛ لما لهم في ذلك من فضل رغبة؛ ألا ترى أنهم قالوا:
{ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [الزخرف: 53]، ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك.
أو يذكر هذا لهم في الجنة - أعني: الذهب والفضة والحرير وما ذكر - ليس على أن هذا مما يشابهه بحال أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم؛ لما روي في الخبر:
"أن فيها - يعني في الجنة - ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أو بال بشر" على ما ذكر، وما ذكر - أيضاً - أن ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا أو لا يوافقه إلا في الاسم أو كلام نحو هذا، والله أعلم.
وقوله: { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ }.
قال بعضهم: إنما يقول هذا الظالم لنفسه الذي ذكر في قوله: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أنهم يحبسون على الصراط حبساً طويلا، أو يحاسبون حساباً شديداً؛ فيطول حزنهم بذلك، ثم يؤذن لهم بالدخول في الجنة، فعند ذلك يقولون ذلك ويحمدون ربهم على إذهاب ذلك الحزن عنهم.
وقال بعضهم: لا، ولكن يقول هذا كل مسلم إذا دخل الجنة؛ لما يخاف كل مسلم في الدنيا على مساويه؛ لما لا يدري إلى ماذا يكون مصيره ومرجعه؟ وأين مقامه في الآخرة؟ فلما أدخل الجنة أمن ما كان يخافه في الدنيا ويحزن عليه، وسلم من تلك الأخطار، حمد ربه عند ذلك.
وقال بعضهم: ذلك الحمد إنما يكون منهم؛ لما ذهب عنهم غمّ العيش والخبر الذي كان لهم في الدنيا؛ إذ كل أحد يهتم لعيشه في الدنيا، فلما دخل الجنة فذهب ذلك عنه، فعند ذلك يحمد ربه.
وقال بعضهم: يحمدون ربهم؛ لما يأمنون الموت عند ذلك؛ إذ ذكر في الخبر
"أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح بين أيديهم" ، فعند ذلك يأمنون الموت، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }.
لمساوئهم من غير أن كان منهم ما يستوجبون المغفرة، شكور لحسناتهم حيث قبلها منهم وأعطاهم الثواب.
وقال أهل التأويل: غفور لذنوبهم، شكور يعطيهم الجزاء الجزيل بالعمل القليل.
وقوله: { ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ }.
لما لا يتمنى التحوّل منها ولا الانتقال، لا يبغون حولا.
وقوله: { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }.
ليس من صاحب نعمة في هذه الدنيا وإن عظمت إلا وهو يمل منها ويسأم، ويتمنى التحول منها والانتقال، وكذلك ليس من لذة وإن حلت في هذه الدنيا إلا وهي تعقب آفة وتعباً، فأخبر أن نعيم [الآخرة] ولذاتها مما لا يتمنى ولا يبتغى التحول منها، ولا لذتها تعقب آفة ولا تعباً ولا إعياء.
وجائز أن يكون قوله: { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } وذلك أن من حل بقرابته وبالمتصلين [به شيء] في هذه الدنيا من آفاتها يهتم لذلك ويتكلف دفع ذلك عنهم، فأخبر أنهم إذا حلوا في دار المقامة لا يهمهم شيء من ذلك، والله أعلم.
وقال بعضهم في قوله: { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }: شكر لهم ما كان منه إليهم، وغفر لهم ما كان منهم من ذنب،
"وفي حديث رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } قال: شكر الله للمؤمن اليسير من الحسنات، وغفر لهم الذنوب العظام" .
والنصب: الأذى، ويقال: الفناء، واللغوب: التعب.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ }: فيستريحوا من عذابها، { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا }.
وفي قوله: { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } نقض قول الجهم وأبي هذيل المعتزلي:
أما قول الجهم؛ لأنه يقول: بانقطاع العذاب عن أهل النار، فأخبر أنه لا يخفف عنهم العذاب، فلو كان يحتمل الانقطاع يحتمل التخفيف، فإذا أخبر أنه لا يخفف عنهم دل أنه لا ينقطع، وكذلك قول مالك لهم:
{ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [الزخرف: 77] لما طلبوا منه التخفيف: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ } [غافر: 49].
وأما على قول أبي الهذيل فإنه يقول: إن العذاب قد يفتر عن أهل النار، ويصير بحال لو أراد الله أن يزيد في عذابهم شيئاً ما قدر عليه، وكذلك يقول في لذات أهل الجنة: إنها تصير بحال وتبلغ مبلغاً لو أراد الله أن يزيد لهم شيئاً منها ما قدر عليه، فظاهر الآية يكذبهم ويردّ قولهم حيث قال: { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا }.
وقوله: { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ }: لنعمه وجاحد وحدانيته.
وقوله: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } .
قال بعضهم: يصيحون فيها.
[و] قال بعضهم: الاصطراخ: الاستغاثة، أي: يستغيثون، واصطراخهم قولهم: { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا، يطلبون منهم دفع ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم، حيث قالوا:
{ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } [إبراهيم: 21] فأجابوا لهم: { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [إبراهيم: 21]، وقال في آية أخرى: { إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ... } الآية [غافر: 48]، فلما أيسوا وانقطع رجاؤهم بالفرج من عندهم فزعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم حيث قالوا: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ * قَالُوۤاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [غافر: 49-50]، فلما أيسوا منهم وانقطع رجاؤهم، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه؛ ليقضي عليهم بالموت حيث قال: { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف: 77]، فلما أيسوا، سألوا ربهم الإخراج عنها؛ ليعملوا غير الذي عملوا حيث قالوا: { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ }، فاحتج عليهم: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } أي: أولم نعمركم فيها من العمر مثل العمر الذي يتعظ به من يتعظ، فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه، وقد أعمرناكم مثل الذي أعمرنا أولئك، أو كلام نحو هذا.
{ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ }.
قال بعضهم: جاءكم الرسول وأنذركم هذا فقد كذبتموه.
وقال بعضهم: { وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } أي: الشيب، ومعناه - والله أعلم - أي: قد رأيتم وعاينتم تغير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال: من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى الشيب، ثم الرد إلى أرذل العمر، فهلا اتعظتم به كما اتعظ أولئك، فذوقوا ما أنذركم به الرسل { فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ }.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }.
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على الوعيد والتخويف، أي: هو عالم بالأشياء التي لم يمتحنها بمحن، ولا أمرها بأمور، ولا نهاها بمناه، فالذين امتحنهم بأنواع المحن، وأمرهم بأوامر، ونهى بمناه - أحق أن يكون عالماً بهم.
والثاني: أنه على علم بما يكون من خلق السماوات وأهل الأرض، خلقهم وبعث إليهم الرسل من التكذيب لهم والردّ عليهم، لا عن سهو وجهل بما يكون منهم؛ ليعلم أنه إنما بعث إليهم الرسل لحاجة أنفس المبعوث إليهم ولمنفعة لهم في ذلك، لا لحاجة المرسل والباعث ولمنفعة له؛ لذلك خرج البعث إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد للرسالة على الحكمة وفي الشاهد على السفه؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسل إلى من يبعث لحاجة نفسه ولمنفعة له في ذلك، فخرج البعث إليه على علم منه بالتكذيب والردّ عليه سفها وباطلا، ومن الله حكمة وحقّاً، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }.
وكأن ذات الصدور هم البشر، خصهم بعلم ما يكون منهم؛ لأنهم أهل تمييز وبصر وامتحان، فيخرج ذلك مخرج الوعيد لهم والتحذير، وأما غيرهم من الدواب ونحوها فلا محنة عليهم ولا تمييز لهم؛ لذلك خص هؤلاء بذلك، وإن كان عالماً بالكل بذات الصدور وغير ذات الصدور، والله أعلم.