خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ
٨
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٩
قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
١٠
-الزمر

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ }.
أخبر الله الخلق ما كان من عادة الكفرة في غير آي من القرآن أنهم كانوا يخلصون الدين لله ويتضرعون إليه إذا مسهم بلاء أو شدة، إذا ركبوا البحر، وكان لهم خوف الهلاك في ذلك وفزع؛ كقوله - تعالى -
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ... } الآية [العنكبوت: 65]، وغير ذلك من الآيات، وكذلك كل بلاء وشدة أصابتهم، فزعوا إلى الله - عز وجل - وتضرعوا إليه، ثم إذا كشف الضر عادوا إلى ما كانوا من قبل.
وقوله: { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } يحتمل قوله: { نَسِيَ } ألا تملك الأصنام التي عبدوها دفع ذلك عنهم ولا كشفه.
أو نسي ألا ينفع شفاعتهم إياهم ونحوه؛ كقوله - عز وجل -:
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67] أي: نسوا ما علموا من عجز الأصنام ونحو.
وقوله: { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ }.
كأن الآية في الرؤساء منهم جعلوا أنداداً ليضل الناس عن سبيله، يدل على ذلك: { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } في الدنيا { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ }، لما علم أنه يختم على الكفر، والله أعلم.
ثم الحكمة في ذكر هذا وأمثاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجوهاً:
أحدها: يصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سوء معاملتهم إياه، كما حكى عن سوء معاملتهم ولم يستأصلهم على أثر ذلك وذلك أعظم في العقل.
أو يخبر الأواخر عن سوء معاملتهم ربهم ليحذروا عن مثل معاملتهم ربهم.
أو يخبر عن حلمه أن كيف عاملهم فاحلم أنت، والله أعلم.
وقرئ: { لِّيُضِلَّ } و{ لِّيِضِلَّ } فيه ثلاث لغات.
وقوله: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ }.
قال بعضهم: هذه الآية صلة ما تقدم من قوله: { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } يقول: الذي تضرع إلى الله، وأخلص دينه له، نسي ذلك وتركه إذا خول ذلك نعمة، وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله - كالذي هو قانت - أي: مطيع لله - آناء الليل والنهار يحذر عذابه ويرجو رحمته، ليسا بسواء عندكم: الذي أطاع الله في جميع أوقاته حاذر تقصيره في ذلك راجٍ رحمته لطاعته، والذي عصى ربه ولم يطعه، فإذا عرفتم أنهما ليسا بسواء ثم رأيتم أنهما قد استويا في نعم هذه الدار وسعتها وشدائدها وفي الحكمة التفريق بينهما، فلابد من دار أخرى يفرق بينهما فيها يثاب المحسن المطيع جزاء إحسانه وطاعته، ويعاقب الكافر الظالم جزاء كفره وظلمه، والله أعلم.
ومنهم من يجعل لهذه الآية مقابل لكنه يقول: مقابلها ليس الأول، ولكن لم يذكر لها مقابل ويقول على ما عرفتم أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، فعلى ذلك لا يستوي الذي أطاع ربه آناء الليل وأجهد نفسه في عبادة الله [و]الذي عصى ربه وكفر نعمه، وقد ظهر الاستواء بينهما في هذه الدنيا فلابد من التفريق بينهما في دار أخرى، ولو لم يكن دار أخرى فيها يفرق ويميز، لكان خلق هذا العالم على ما كان باطلا سفها غير حكمة، والله أعلم.
وقوله: { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ }.
أي: يحذر عذاب الآخرة، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأه: { يحذر عذاب الآخرة }.
وقوله: { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } دلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الرجاء والحذر يرجو رحمته لا عمله ويحذر عذابه لتقصيره في عمله.
ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمنا، وقد قال الله - عز وجل -:
{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99]، والخوف إذا جاوز حده يكون إياسا، وقد قال الله - تعالى -: { لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]، ويجب أن يكون المؤمن كما ذكر - عز وجل -: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة: 16]، و { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء: 90] لا يجاوز أحدهما.
وجائز أن يكون قوله - عز وجل -: { وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ }، أي: جنته على ما سمى الجنة: رحمة في غير موضع؛ لما برحمته تنال هي، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ }.
في معرفة نعم الله والقيام بشكره، والحذر عن عصيانه وعذابه.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.
في كل ذلك، جوابه أن يقال: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهو ما قال - عز وجل -:
{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28].
وقوله: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }.
إنما يتذكر بمواعظ الله أولو العقول والبصر والمعرفة، والله أعلم.
وقوله: { آنَآءَ ٱلَّيلِ } أي: ساعات الليل، و{ قَانِتٌ } أي: مطيع، وأصل القنوت هو الطاعة، وقيل: القنوت: القيام، وهو القيام في الطاعة، والله أعلم.
وفي قوله: { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } دلالة جواز الإرجاء؛ لأنه لم يقطع على أحدهما دون الآخر؛ وكذلك في قوله تعالى:
{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة: 16]، وفي قوله: { رَغَباً وَرَهَباً } [الأنبياء: 90]، وفي القطع على أحدهما كفر على ما ذكرنا من قوله: { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ } [الأعراف: 99] و { لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [يوسف: 87]؛ إذ المجاوزة في الخوف إياس، والمجاوزة في حد الرجاء أمن وقد ذكرنا أنه كفر.
وقوله: { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ }.
يحتمل قوله: { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } وجوهاً:
اتقوا سخط ربكم.
أو اتقوا نقمة ربكم.
أو اتقوا مخالفة ربكم ونحوه.
وأصل التقى: ما تهلكون، أي: اتقوا مهالككم، والله أعلم.
وقوله: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ }.
قال عامة أهل التأويل: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة لهم في الآخرة.
وجائز أن يكون لهم الحسنة في الدنيا و[في] الآخرة حسنة؛ [كقوله:]
{ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ... } الآية: [يوسف: 109]؛ وكقوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ } [النحل: 41].
ثم يحتمل الحسنة وجهاً آخر: استغفار الملائكة لهم والأنبياء - عليهم السلام - لأن الله - عز وجل - امتحن ملائكته على استغفار المؤمنين والمؤمنات؛ كقوله:
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } [الشورى: 5]، وكذلك امتحن رسله بالاستغفار للمؤمنين، وكذلك المؤمنون يستغفر بعضهم لبعض ونحوه.
وقوله: { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ }.
ذكر هذا - والله أعلم - لأن من آمن منهم بمكة كانوا يظهرون الموافقة لأعدائهم ويقيمون فيما بينهم، وكانت لهم أسباب التعيش في بلدهم ولم يكن لهم تلك في بلد غيرهم، فخافوا الضياع إذا هم خرجوا من بلدهم فيهاجروا منها إلى غير بلدهم فيمتنعون عن ذلك، فجاءت الآية على الترجي والإطماع لهم بمثل ذلك التعيش وأسبابه في غير ذلك البلد، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله:
{ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [النساء: 97] لم يقدروا في تركهم الهجرة وإظهارهم الموافقة للأعداء، ولهم طاقة ووسع التحول من بلدهم إلى بلد غيرهم، إلا من لم يكن به طاقة الخروج من بينهم وهم الذين استثناهم وهو قوله: { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ... } الآية [النساء: 98]، والله أعلم.
و[يحتمل] قوله: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }، وجوهاً:
أحدها: { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: بغير تبعة ولا مئونة؛ كقوله:
"من نوقش الحساب عذب" .
أو { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: لا يحاسبون؛ لا ليس وراء تلك الدار الآخرة دار أخرى يحاسبون فيها ما أعطوا في الآخرة ليس كدار الدنيا يحاسب من أوتوا فيها في الآخرة، وأما ما أعطوا في الآخرة فلا يحاسبون في غيرها.
ويحتمل { بِغَيْرِ حِسَابٍ }، أي: غير مقدر بالحساب، ولكن أضعافاً مضاعفة.
ويحتمل { بِغَيْرِ حِسَابٍ }،أي: بلا نهاية ولا غابة، والله أعلم.
ثم الصبر: هو حبس النفس إما على أداء ما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه، أو حبسها وكفها في احتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام، احتملوا ذلك ولم يجزعوا، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ... } الآية [البقرة: 155]، وقوله: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] ونحوه.