خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٠٤
إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً
١٠٥
وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٦
وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً
١٠٧
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ }.
في الآية دلالة فرضية الجهاد؛ لأنه - عز وجل - أخبر أنهم يألمون ويتوجعون بما يصيبهم من الجراحات كما تألمون أنتم وتتوجعون بها؛ فلو كان نفلا لكان يرفع عنهم الجهاد عند الألم والتوجع؛ على ما يرفع سائر النوافل عند الألم والتوجع؛ فدل أنه فرض، لكنه فرض كفاية، وفرض الكفاية يسقط بقيام البعض عن الباقين. وقد ذكرنا فيما تقدم الوجه فيه.
وقوله - تعالى -: { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ }، فمعناه - والله أعلم - أي: لا عذر لكم في تألمكم أن تهنوا في ابتغائهم؛ { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } ولا [يضعفون في ذلك]، { وَتَرْجُونَ } أنتم العاقبة من الثواب الجزيل { مَا لاَ يَرْجُونَ }، ثم هم لا يضعفون؛ فكيف تضعفون أنتم في ذلك؟! وكل أمر لا عاقبة له فهو عبث، وليس لأمرهم عاقبة؛ فهو عبث، ولأمركم عاقبة محمودة؛ فأنتم أولى في ذلك.
ودل قوله: { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ } - على تأكد فرضية الجهاد؛ إذ لم يأذن لهم في التخلف عن ذلك، على ما فيه من التألم، وخوف هلاك النفس في ذلك، ثم بين ما يخفف لمثله بحمل المكروه على الطبع له، وقد يختار له مباشرة الأتعاب في النفس من عواقب تنقطع وتزول؛ فكيف فيما [لا انقطاع] له من رجاء الثواب بذلك التألم؟! والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً }.
بتألمكم، أي: عن علم بالتألم أمركم بذلك، لا عن جهل. وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ }.
قوله: { بِٱلْحَقِّ } يتوجه وجوهاً.
بحق الله عليكم، أنزل إليك الكتاب.
ويحتمل: بحق بعض على بعض أنزل إليك الكتاب؛ لتحكم بين الناس.
ويحتمل قوله: { بِٱلْحَقِّ }، أي: بالمحنة يمتحنهم بها؛ إذ في عقل كل أحد ذلك، وإهمال كل ذي لبٍّ لا يؤمر ولا ينهي - خروج عن الحكمة.
أو أن يقال: { بِٱلْحَقِّ }، أي: بالعواقب؛ لتكون لهم العاقبة.
وقوله - تعالى -: { بِٱلْحَقِّ } أي: بالحق الذي لله، أو لبعض على بعض، أو لأمر كانت، وهو البعث؛ لِيُعَدَّ له، ويتزودوا بالذي يحمد عليه فاعله؛ إذ الحق صفة لكل ما يحمد عليه فاعله، والباطل لما يذم.
وقد يحتمل بالعدل والصدق على الأمر من التغيير والتبديل، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ }.
قيل: إن في الآية دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه قال: { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ }؛ دل قوله { بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } أن ثمة معنى يدرك بالنظر والتأمل؛ لأنه لو كان يحكم بالكل بالكتاب، لكان لا معنى لقوله: { بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ }.
ولكن يقول له: لتحكم بين الناس بالكتاب؛ دل أنه يحكم بما يريه الله بالتدبر فيه والتأمل، لكن اجتهاده كالنص؛ لأنه لا يخطئه؛ لأنه أخبر أنه يريه ذلك؛ فلا يحتمل أن يريه غير الصواب، وأما غيره من المجتهدين فيجوز أن يكون صواباً، ويجوز أن يكون خطأ؛ لأنه لا ينكر أن يكون الشيطان هو الذي أراه ذلك فيكون خطأ؛ فلا يجوز أن يشهد عليه بالصواب ما لم يظهر، وأما اجتهاده صلى الله عليه وسلم فهو كله يكون صواباً؛ لأن الله - تعالى - هو الذي أراه ذلك؛ فنشهد أنه صواب.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } قال أكثر أهل التفسير: إنه هَمَّ أن يُقَوِّي سارقاً - يقال له: طعمة - ويصدقة في قوله؛ فنزل قوله: { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }؛ فلو لم يقولوا ذلك كان أوفق وأحسن، فإن كان ما قالوا، فذلك لم يظهر منه الخيانة عنده؛ إذ ذكر في القصة أنه وجد السرقة في دار غيره. فلئن كان ذلك إنما كان لما ذكرنا.
وأما النهي عن أن يكون للخائنين خصيما: نهي وإن كان يعلم أن لا يكون لما عصمه الله؛ كقوله - تعالى -:
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14]، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [الأنعام: 114]، إن كان عصمه من أن يكون منهم، والعصمة إنما تنفع إذا كان ثمة أمر ونهي، فأما إذا لم يكن ثمة لا أمر ولا نهي فلا معنى للعصمة والتوفيق.
وقوله - عز وجل -: { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
وقوله - تعالى -: { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ }، ليس هو قول الناس: نستغفر الله، ولكن كأنه قال: كونوا على الحال التي تكون أعمالكم مكفرة للذنوب؛ ألا ترى إلى قول هود لقومه:
{ وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ... } الآية [هود: 52]. وقال نوح - عليه السلام - لقومه: { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً... } الآية [نوح: 10]، لم يريدوا أن يقولوا: نستغفر الله قولا حسب؛ ولكن أرادوا أن يكونوا على الحال التي تكون أعمالهم مكفرة لذنوبهم؛ لأنهم لو قالوا بلسانهم ألف مرة: نستغفر الله، لكان لا ينفعهم ذلك؛ فعلى ذلك قوله: { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
وحقيقة الاستغفار وجهان:
أحدهما: الانتهاء عما أوجب العقوبة؛ لقوله:
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38]، وعلى ذلك معنى قول من ذكر.
والثاني: طلب الستر بالعفو والتجاوز.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ... } الآية [النساء: 107]، هو ما ذكرنا أن العصمة لا تنفع؛ إذا لم يكن أمر ونهي.
وقوله - عز وجل -: { يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ }: لا أحد يقصد قصد خيانة نفسه، ولكن لما رجع في العاقبة ضرر الخيانة إلى أنفسهم، صاروا كأنهم اختانوا أنفسهم كقوله:
{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } [البقرة: 9] لا أحد يقصد قصد خداع نفسه؛ لكن لما رجع في العاقبة حاصل الخداع إليهم - صاروا كأنهم خدعوا أنفسهم؛ فعلى ذلك الأول، والله أعلم.