خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً
١٧١
لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً
١٧٢
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٧٣
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ }.
والغلو في الدين: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم، وكذلك الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي [حد لهم] في الفعل وفي النطق جميعا.
وقال بعضهم: تفسير الغلو ما ذكر: { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }؛ فالقول على الله بما لا يليق [به] غلو.
وقيل: لا تغلوا: أي لا تَعَمَّقُوا في دينكم، ولا تَشَدَّدُوا؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على الله، والقول بما لا يحل ولا يليق.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }.
أي: الصدق.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } يقول: لا تقولوا لله - تعالى - ولد ولا صاحبة.
وفي حرف حفصة - رضي الله عنها -: "ولا تقولوا: الله ثالث ثلاثة؛ إنما هو إله واحد".
وقوله - عز وجل -: { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ }.
الخطاب بقوله: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } في حقيقة المعنى - للخلق كلهم؛ لأن [على كل] الخلائق ألا يغلوا في دينهم، وهو في الظاهر في أهل الكتاب، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوصة دليل خصوصه؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ: الخصوص، بخصوص اللفظ: العموم؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد، وبخصوص اللفظ خصوصه.
ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى صلى الله عليه وسلم بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم: قال بعضهم: هو إله، ومنهم من يقول: هو ابن الإله، ومنهم من يقول: هو ثالث ثلاثة: الرب، والمسيح، وأمّه؛ فأكذبهم الله - عز وجل - في قولهم، وأخبر أنه رسول الله ابن مريم، ولو كان هو إلهاً لكانت أمه أحق أن تكون إلهاً؛ لأن أمه كانت قبل عيسى - عليه السلام - ومن كان قبلُ، أحق بذلك ممن يكون من بعد، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره، لا يتخذ من غير جوهره؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولداً - لم يتخذ من جوهر البشر؛ كقوله - تعالى -:
{ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ... } [الأنبياء: 17].
وقوله - عز وجل -: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }.
قال بعضهم: كلمته: أن قال له: كن؛ فكان. لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله - عز وجل -: كن؛ فكان؛ فليس لعيسى - عليه السلام - في ذلك خصوصية.
وأصله أنه سمى كلمة الله لما ألقاها إلى مريم، ولا ندري أية كلمة كانت؛ وإنما خلقه بكلمته التي ألقاها إليها؛ فسمي بذلك، كما خلق آدم من تراب؛ فنسب إليه، وحواء خلقها من ضلع آدم؛ فنسبها إليه، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة؛ فنسبهم إليها؛ فعلى ذلك عيسى، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها - نسب إليه، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال، ولم يذكر ذلك في عيسى؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [كقوله - تعالى -:]
{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 12] فسمي لذلك روحاً؛ لما به كان يحيي الموتى؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحاً، وهو قوله - تعالى -: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52].
سماه روحاً؛ لما به يحيي القلوب، كما يحيي الأبدان بالأرواح.
وقيل: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي: أحياه الله وجعله روحاً.
وقيل: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي: رسولا منه.
وقيل: { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي: أمر منه.
وقوله - عز وجل -: { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ... }.
لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة؛ إنما دعاكم الرسل أنه الله إله واحد لا شريك له ولا ولد.
{ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ }.
بما ذكرنا بالآية الأولى.
وقوله: { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } بالرفع، أي: لا تقولوا: هو ثلاثة.
وقوله - عز وجل -: { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولداً، ثم أخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض؛ وإنما يُتَّخَذُ الولد لإحدى خصال ثلاث: إما لحاجة تمسه؛ فيدفعها به عن نفسه، أو لوحشة تصيبه؛ فيستأنس به، أو لخوف غلبة العدو؛ فيستنصر به ويقهره، أو لما يخاف الهلاك؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه.
فإذا كان الله - سبحانه - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة، أو لملكه زوال - يتعالى عن أن يتخذ ولداً وهو عبده.
{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }. قيل: حافظاً؛ وقيل: شهيداً.
وقيل: الوكيل: هو القائم في الأمور كلها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }.
تكلم الناس في هذه الآية: قال الحسن: فيه دليل تفضيل الملائكة على البشر؛ لأنه قال - عز وجل -: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }؛ لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول، وأبداً إنما يذكر ما به يؤكد؛ إذا كان أفضل منه وأرفع، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه؛ كما يقال: لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد؛ فهو على التأكيد يقال؛ فعلى ذلك الأول: خرج ذكر الملائكة على أثر ذكر المسيح؛ على التأكيد، وأبداً إنما يقع التأكيد بما هو أكبر، لا بما دونه.
والثاني: قال:
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]، وقال - عز جل -: { يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 20]، وقالوا: فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي؟! وحال من لا يفتر عن عبادته طَرْفَةَ عَيْنٍ مع حال من يرتكب المناهي؟!
والثالث: ما قال الله - تعالى - حكاية عن إبليس؛ حيث قال لآدم وحواء - عليهما السلام -
{ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20].
لو لم يكن للملائكة فضل عندهم ومنزلة - ليس ذلك للبشر - لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملك والوعد لهما أنهما يصيران مَلَكَيْنِ، ولا كان آدم وحواء بالذين يغتران بذلك - دل أن الملك أفضل من البشر.
والرابع: أن الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - ما استغفروا لأحد، إلا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين؛ كقول نوح صلى الله عليه وسلم:
{ رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ... } الآية [نوح: 28]، وكقول إبراهيم - عليه السلام - { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [إبراهيم: 41]، وما أمر [الله] - عز وجل - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالاستغفار؛ فقال: { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } الآية [محمد: 19] وقال: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2] وما أمر بذلك، وما فعلوا ذلك؛ إلا ما يحتمل ذلك فيهم.
والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم؛ ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر؛ كقوله:
{ فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [غافر: 7] وإلى هذا ذهب بعض الناس: بتفضيلهم الملائكة على البشر.
وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة؛ لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك - على الملائكة؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه.
ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة - إلى أنه: ليس في قوله تعالى: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } - [دلالة] على أن الملائكة كلهم أفضل منهم؛ لأنه إنما ذكر "المقربون"، لم يذكر الملائكة مطلقاً؛ فيجوز أن يكون لمن ذكر فضل على البشر، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم، من نحو: أنفسهم، والشياطين الذين سلطوا عليهم، ولا كذلك الملائكة؛ فمن حفظ نفسه، وصانها، وأخلصها من بين الأعداء، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات، والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له - كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك، والله أعلم.
وما ذكر من اغترار آدم وحَوَّاء بقول إبليس:
{ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [الأعراف: 20] لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه؛ ليصير من جوهر الملائكة، ولكنه - والله أعلم - رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له - فأحب أن يطبع بطبعهم؛ ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم، والله أعلم.
والتكلم في مثل هذا فضل؛ ذلك إلى الله تعالى، وإليه التخيّر والإفضال.
ثم تأويل قوله عز وجل - والله أعلم -: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ }: وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون الله، ويعبدون المسيح دونه؛ فأخبر أن أولئك الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي؛ فكيف تستنكفون أنتم؟!
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }.
فهو - والله أعلم - على الإضمار؛ كأنه قال: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر؛ فيسحشرهم إليه جميعاً.
ثم بين جزاء من لم يستنكف عن عبادته، ومن لم يستكبر، ومن استنكف واستكبر، فقال: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ... } الآية، { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ... } الآية؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن؛ بل كانوا كلهم كفاراً؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته.
والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة، وقال الكساني: وإنما جمع بينهما؛ لاختلاف اللفظين، وهذا من حسن كلام العرب: كقول العرب: كيف حالك؟ وبالك؟ والحال والبال واحد، ومثله في القرآن والشعر كثير.
لكن الاستنكاف - والأنفة - لا يضاف إلى الله تعالى، والاستكبار يضاف، [فهما] من هذا المعنى مختلفان، وأما في الحقيقة فهما واحد، والله أعلم.