خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٦
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
٢٧
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً
٢٨
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ }.
يحتمل قوله: يريد الله أن يبين لكم ما تؤتون وما تنفقون، وما لكم وما عليكم، ويبين ما به صلاحكم ومعاشكم في أمر دينكم ودنياكم، لكن حقيقة المراد بالآية: إما أن يكون أراد جميع ما ذكر، أو معنى خاصّاً مما احتمله الكلام، وليس لنا القطع على ما أراد به.
وقوله - عز وجل -: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }.
[يحتمل] وجوهاً:
أي: يبين لكم سبيل الذين من قبلكم، أي: سبيل الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأهل الهدى والطاعة منهم؛ ليعلموا ما عملوا هم وينتهوا عما انتهوا، وكذلك في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: { سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } سبل الذين من قبلكم.
ويحتمل: قوله: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي: أمر الرسالة والنبوة؛ ليهديكم محمد صلى الله عليه وسلم وهو رسول؛ إذ أمر الرسالة والنبوة ليس ببديع، قد كان في الأمم السالفة رسل وأنبياء - عليهم السلام - فأمر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ليس ببديع ولا حادث؛ كقوله - تعالى -:
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 9].
ويحتمل قوله: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي: يبين لكم أن كيف كان سنته في الذين خلوا من قبل في أهلاك من عاند الله ورسوله، واستئصال من استأصلهم بتكذيب الرسل والأنبياء - عليهم السلام - والخلاف لهم؛ كقوله - تعالى -:
{ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } [الأحزاب: 38] وقوله - تعالى -: { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ } [الأنفال: 38].
وقيل: { سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } شرائع الذين من قبلكم من المحرمات والمحللات: من أهل التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب.
وقوله - عز وجل -: { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ }.
أي: يريد أن يتوب عليكم.
وفي قوله - تعالى - أيضاً -: { سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } يحتمل: يهديكم تلك السنن، أي: يبينها لكم أنها كانت ماذا؟
ويحتمل: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } بمعنى: جعل تلك السنن هداية لكم.
ثم قوله - عز وجل -: { مِن قَبْلِكُمْ } يحتمل: سنته وسيرته في الذين من قبلكم؛ لتعتبروا به.
ويحتمل: سنتهم التي لزموها، وسيرتهم التي سلكوها بما لها من العواقب؛ لتتعظوا بها، والله أعلم بحقيقة ما انصرف إليه مراد الآية، لكن فيما احتمله، فهاهنا موعظة بيناها فيه، وعلى ذلك معنى قوله - عز وجل -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } يحتمل: كل ما به لنا نفع، أو كل ما بنا إليه حاجة، أو كل ما علينا القيام به، أو يرجع ذلك إلى الخاص مما يريد بالآية الإخبار عنه، وأن الذي علينا النظر فيما قد يفضل البيان عنه، وفيما أنبأنا عن سنته فيمن تقدمنا مما نرجو به الهداية والشفاء؛ للقيام بما علينا في ذلك من الحق دون الشهادة عليه - جل ثناؤه - بالمراد فيها في مخرج الكناية دون التصريح من الموعود.
وقوله - تعالى -: { لِيُبَيِّنَ } وأن يبين في مفهوم الخطاب فيما جرى به الذكر في هذه الآية واحد؛ إذ لو كان ذكر "أن" لسبق إلى الفهم غير الذي سبق في هذا على حق العباد من التفاهم، والله أعلم.
ثم كان معلوماً فيما أراد بقوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ } أنه لو لم يبين ما أراد بهذا الوعد ولم يهد - أنه كان يلحقه الخلف في الوعد؛ فعلى ذلك فيمن قال: يريد الله أن يتوب عليكم، ويريد الله أن يخفف عنكم: لو لم يكن يخفف ويتوب على من أريد بقوله: يتوب ويخفف عنكم - يلحقه الخلف في الوعد، ثم يخالف وصف كافر في حال أنه ممن تاب الله عليه؛ ثبت أنه لم يدخل في قوله - سبحانه وتعالى - { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ }
فإذا ثبت أنه لم يدخل فيه وجب فيه أمران:
أحدهما: أن الإرادة ليست بأمر؛ إذ قد أمر الكافر بالتوبة.
والثاني: أن كل من لم يتب فهو ممن لم يرد الله أن يتوب عليه، وهو في قوله - تعالى -:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [المائدة: 41] على أن الله - تعالى - قال في المؤمنين: { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } [الأنفال: 67] وقال في الكفار: { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 176] على التفريق بين الذي في علمه أن يختم مؤمنا، ومن في علمه أن يختم كافراً، على أن إرادة الهداية مع إرادة ألا يجعل له الحظ في الآخرة على الموعود - خلف، وإرادة من لا تدبير له في فعله، ولا يتصل به فعله - تمنٍّ في متعارف الأمر وتشهٍّ، ولا يجوز أن يضاف إلى لله - تعالى - الإرادة من هذا الوجه؛ فكان له حق الإرادة وهي التي يوصف بها من فعله الاختيار ثبت أن الله - تعالى - في فعل العباد فعلا: بحيث فعله يوصف بالإرادة، وفي ذلك وجوب القول بخلق أفعال العباد.
أو أن يكون المراد من تلك الإرادة - إذا لم تحتمل التمني، ولا الأمر - أن تكون الإرادة [التي تنفي] القهر والغلبة؛ فيلزم إذا ثبت نفي القهر - الوصفُ بالإرادة، وثبت أنه مريد لكل فعل نفي عنه القهر في وجوده، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ }.
بما يؤتي [وينفي]، عليم بما به معاشكم وصلاحكم، وما به فسادكم وفساد معاشكم، ونحوه.
{ حَكِيمٌ }
وضع كل شيء موضعه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ }.
قالت المعتزلة: قد أراد الله - تعالى - توبة من لا يتوب؛ فيقال لهم: ما التوبة عندكم؟ أليس عندكم التوبة: التجاوز والدعاء؟ فإذا وعد أن يتوب ولم يفعل - فهل ترك ذلك لا بعجز أو ذلك إلا لعجز أو بداء به، أو ذلك الوصف له بالعجز أو الجهل، فنعوذ بالله من الزيغ عن الحق، والسرف في القول.
وأما تأويله عندنا: والله يريد أن يتوب عليكم في الذي علمه أنهم يتوبون، أو كان ذلك إخباراً عن قوم أراد الله أن يتوب عليهم فتابوا.
وقال قوم: قوله: { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يأمر أن يتوبوا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ } الآية.
[أي]: من اختيار الدنيا على الدين، والأولى على الآخرة؛ لهوى يتبعه، وشهوة تغلبه، لا لتقصير من الله - عز وجل - عن البيان؛ بل لتركهم النظر والتأمل بالعواقب غلبت عليهم شهواتهم، واتبعوا أهواء أنفسهم: إما رياسة طلبوها، وإما سعة في الدنيا بغوها؛ فذلك الذي يمنعهم عن النظر في العاقبة، والتأمل في الآخرة؛ لذلك مالوا ميلا عظيماً، وخسروا خسراناً مبيناً، وضلوا ضلالا بعيداً.
وقوله - عز وجل -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } يحتمل هذا: أنه خفف علينا، ولم يحمل ما حمل على الأمم السالفة من الإصر والشدائد والأثقال والمشقات، مما جعل توبتهم قتلَ بعضهم بعضاً، وجعل توبتنا الندامة بالقلب، والرجوع عمّا ارتكبوا.
أو أن يقال: خفف عنا؛ حيث لم يستأصلنا، ولم يهلكنا بالخلاف له وترك الطاعة، على ما استأصل أولئك وأهلكهم.
ويحتمل التخفيف عنا - أيضاً -: وهو ما خفف علينا من إقامة العبادات والطاعات، من نحو: الحج، والجهاد، وغيره، حتى جعل القيام بذلك أخف على الإنسان وأيسر من قيامه بأخف العبادات [والطاعات] وأيسرها، وذلك من تخفيف الله علينا وتيسيره؛ فضلا منه ورحمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً }.
يحتمل: أن يكون أراد به الكافر؛ كقوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [المعارج: 19] وكقوله - تعالى -: و { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } [المعارج: 20] وقد قيل: كل موضع ذكر فيه الإنسان فهو في كافر من ضعفه يضيق صدره، ويمل نفسه بطول الترك في النعم حتى يضجر فيها.
ويحتمل: أنه أراد به الكافر والمسلم، ووضعُه في ابتداء حاله أنه كان ضعيفاً؛ كقوله:
{ خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } [الروم: 54].
ويحتمل وصفه بالضعف له؛ لأنه ضعيف في نفسه، يمل من الطاعات والعبادات التي جعل الله عليه، ليس كالملائكة؛ حيث وصفهم أنهم لا يفترون ولا يستحسرون،
{ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 20] ولا كذلك بنو آدم.