خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
٣٤
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
٣٥
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ }.
قال أهل التأويل: الآية نزلت في الأزواج؛ دليله قوله - تعالى -: { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ } والأزواج هم المأخوذون بنفقة أزواجهم، وفيه دليل وجوب نفقة المرأة على زوجها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم في قوله - تعالى -: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } - دليل ألا يجوز النكاح إلا بالولي، حيث أخبر أنهم القوامون عليهن دونهن.
قيل له: إن كانت الآية في الأزواج وفي الأولياء على ما ذكرت ففيه دليل جواز النكاح بغير ولي لا بطلانه، وذلك قوله - تعالى -: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أخبر أنه فضل بعضهم على بعض، وذلك التفضيل تفضيل خلقة، وهو أن جعل الرجال من أهل المكاسب والتجارات، والقيام بأنواع الحرف، والتقلب في البلدان والمدائن، والنساء ليس كذلك؛ بل جعلهن ضعفاء عاجزات عن القيام بالمكاسب والحرف والتقلب في حاجاتهن؛ فالرجال هم القوامون عليهنّ. والون أمورهن، وقاضون حوائجهن، قائمون على ذلك، ففرض على الرجال القيام بمصالحهن كما ذكرنا مع ما فرض ذلك على الرجال، يجوز إذا ولين بأنفسهن وقمن بحوائجهن من البياعات، والأشربة، وغير ذلك؛ فعلى ذلك النكاح، وإن كان الرجال هم القوَّام عليهن، فإنهن إذا ولين ذلك بأنفسهن وقمن - جاز ذلك كما جاز غيره، وكذا ما أمر الأولياء بالتزويج في قوله - تعالى -:
{ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ... } الآية [النور: 32]، ونهاهم عن العضل عن النكاح بقوله - عز وجل -: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ... } الآية [البقرة: 232]؛ لأن ذلك حق عليهم أن يفعلوا حتى يلين ذلك بأنفسهن؛ إذ لا بد من حضور مشهد الرجال ومجلسهم ليشهدوا على ذلك، فذلك على الأولياء القيام به.
وكهذا ما جعل نفقتهن إذا لم يكن لهن مال على محارمهن؛ لأنهن لا يقمن بالمكاسب وأنواع الحرف والتجارات، والرجال يقومون، فجعل مؤنتهن عليهم؛ لضعفهن وعجزهن عن القيام بالمكاسب خلقة؛ ولهذا ما لم يجعل للذكور من المحارم بعضهم على بعض النفقة؛ لما يقومون بالمكاسب؛ فإذا صار زَمِناً وعجز عن المكاسب جعل نفقته على محارمه؛ لأنه صار في الخلقة كالمرأة، والله أعلم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } قال: أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمر الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهلها، حافظة لماله، وفضله عليها بنفقته وسعته.
وقيل:
"نزلت الآية في رجل لطم امرأته لطمة في وجهها؛ فنشزت عن فراش زوجها، واستعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لطمني زوجي فلان لطمة، وهذا أثر يده في وجهي؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْتَصِّي مِنْهُ، وكان القصاص بينهم يومئذٍ بين الرجال والنساء في اللطمة والشجة والضربة، ثم أبصر النبي صلى الله عليه وسلم جبريل - عليه السلام - ينزل، فقال لها: كُفِّي حَتَّى أَنْظُرَ مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيْلُ فِي أَمْرِكِ، فأتاه بهذه الآية: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }" أي: المسلّطون على آداب النساء في الحق.
وقيل: تفضيلهم عليهن بالعقل والميراث، وفي الفيء، والله أعلم.
ثم قال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم:
"أَرَدْنَا أَمْرَاً وَأَرَادَ اللهُ أَمْراً، وَالَّذِي أَرَادَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْنَا" .
و[قيل في قوله - تعالى -: { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِم }: بما ساقوا من المهر والنفقة.
استدل الشافعي -رحمه الله - بقوله - تعالى -:] { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ...ْ } الآية، على أن النكاح لا يجوز إلا بالولي، فصرف تأويل الآية إليهم، وفيها: { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ } فيلزم الأولياء النفقة، وهو لا يقول به.
وبعد: فإن الآية لو كانت في الأولياء فهو في كل أمر لهن إليهم حاجة؛ فيخرج ذلك مخرج الحق لهن في أن يتولوا لهن العقود كلها، ويقوموا في كفايتهن وكفالتهن، لا أنهن لو قمن بأنفسهن يبطل فعلهن؛ فمثله أمر النكاح.
وأهل التأويل يحملون الآية على الأزواج، ومن تدبر الآية علم أنها فيما قال أهل التأويل دون الذي ذهب إليه الشافعي، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ }.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: { قَٰنِتَٰتٌ } يعني: مطيعات، والقانت: هو المطيع.
ويحتمل: مطيعات لله تعالى:
ويحتمل: مطيعات للأزواج.
ويحتمل: { قَٰنِتَٰتٌ } أي: قائمات بأداء ما فرض الله عليهن من حقوقه وحقوق أزواجهن.
وقوله - عز وجل -: { حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ }.
قيل: حافظات لما استودعهن الله من حقه، وحافظات للغيب لغيب أزواجهن.
وقيل: حافظات لأنفسهن - لغيبة أزواجهن - في فروجهن.
ويحتمل: { حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ } أي: لله في أموره ونواهيه، والقيام بحقوقه، وقانتات وحافظات هو تفسير صالحات.
وقوله - عز وجل -: { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ }.
اختلف في تلاوته وتأويله؛ في حرف بعضهم بالنصب { بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } وتأويله: بحفظ الله، لكنه نصب لسقوط حرف الخفض، ومن رفعه جعل تأويله: بما استحفظهن الله تعالى، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ }؟
قال بعض أهل الأدب: سمي العلم خوفاً؛ لأنه اضطر في العلم.
وقال آخر - وهو الفراء -: الخائف: الظان؛ لأنه يرجو ويخاف.
وأما الأصل في أنه سمي العلم خوفاً؛ لغلبة شدة الخوف؛ فيعمل عمل العلم بالشيء على غير حقيقته؛ لأنه يعرف بالاجتهاد، وبأكثر الرأي والظن، وهكذا كل ما كان سبيل معرفته الاجتهاد - فإن غالب الظن وأكبر الرأي يعمل عمل اليقين في الحكم وإن لم يكن هنالك حقيقة؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ } [الممتحنة: 10] وألزمنا العمل بظاهر علمنا وإن لم نصل إلى حقيقة إيمانهن؛ فعلى ذلك إذا علم منها النشوز علم أكثر الظن وأغلبه يعمل عمل الذي ذكر في الآية من العظة وغيرها؛ لأن قوله - تعالى -: { تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } ليس على وجود النشوز منها للحال حقيقة؛ ولكن على غالب الظن؛ لأنها إذا كانت ناشزة كيف يعظها؟ وكيف يهجرها ويضربها؟ فدل أنه على غالب العلم؛ أولا ترى أنه من أكره على أن ينطق بكلام الكفر بقتل أو ضرب يخاف منه التلف - كان في حل وسعة أن ينطق به بعد أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، وذلك إنما يعلم علم غالب الظن، وأكبر الرأي لا يعلم علم حقيقة، ثم أبيح له أن يعمل عمل حقيقة العلم؛ فكذلك الأول - والله أعلم - نهى الله - عز وجل - المرأة عن عصيان زوجها، وأمرها بطاعته في نفسها، كما أمره أن يحسن عشرتها، وهذا هو - والله أعلم - هو الحق الذي ذكره الله - تعالى - في سورة البقرة مجملا بقوله - تعالى -: { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 228] وفسر الحق عليهن في هذه السورة وهو أن تطيعه في نفسها، وتحفظ غيبته؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً }.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ إِنْ دَعَاهَا وَهِي عَلَى قَتَبٍ أَنْ تُطِيعَهُ" .
وقوله - عز وجل -: { فَعِظُوهُنَّ }.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: عظوهن بكتاب الله { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } أي رجعن إلى الفراش والطاعة، وإلا فاهجروهن، والهجران ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، فإن قبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح، ولا تكسر لها عظماً، فإن قبلت وإلا فقد حل لك منها الفداء.
ويحتمل قوله - تعالى -: { فَعِظُوهُنَّ }، أي: يقول لها: كوني من الصالحات، ومن القانتات، ومن الحافظات، ولا تكوني من كذا، على الرفق واللين؛ فإن هي تركت ذلك وإلا فاهجرها، والهجران يحتمل وجهين:
يحتمل التخويف على الاعتزال منها، وترك المضاجعة والجماع.
ويحتمل: أن يهجرها ولا يجامعها، لا على التخويف من ترك ذلك؛ فإن هي تركت ذلك وإلا ضربها عند ذلك الضرب الذي ذكرنا غير مبرح، ولا شائن، والله أعلم.
على الترتيب: يعظها أولا بما ذكرنا من الرفق بها واللين لعلها [تطيعه وتترك] ذلك، ثم إذا لم تطعه خوفها بالهجران؛ فلعل قلبها لا يحتمل الهجران وترك المضاجعة؛ فتطيعه؛ فإن هي أبت ذلك حينئذ هجرها، ولم يجامعها ولا يضاجعها؛ فإن هي أطاعته وإلا عند ضربها؛ فإن هي أطاعته وإلا عند ذلك يرفعان إلى الحاكم، وهذا يجب [في] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يعظه على الرفق واللين أولا، ولا يغلظه في القول؛ فإن هو قبل ذلك وإلا عند ذلك غلظ القول به؛ فإن قبل ذلك وإلا بسط يده فيه على ما أمر الله - سبحانه وتعالى - الأزواج أن تعامل النساء من العظة، ثم الهجران، ثم الضرب، ثمر الرفع إلى الحكمين.
وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لاَ تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللهِ" ؛ فترك الناس ضربهن، فجاء عمر - رضي الله عنه - فقال: والله لقد دبر النساء يا رسول الله؛ [فأمر بضربهن، قال: فأطاف بآل محمد النساء كثيراً يشتكين أزواجهن، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:] "لَقَدْ أَطَافَ اللَّيْلَةَ بآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ، واللهِ مَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خَيَارَكُمْ" ، وقال: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَِهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَِهْلِي" وقال: "أَحْسَنُ المُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ" .
قال: والموعظة كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطبائع النافرة؛ فيكون ذلك تذكير عواقب الأمور ومبادىء الأحوال، والله أعلم.
وعلى ذلك يعظها زوجها بأن يذكرها نعم الربّ - جل جلاله - وما جعل من الحق عليها، وما وعد في ذلك وأوعد.
ففي هذه الآيات دلالة لزوم الاجتهاد وتكليف ما لا يوصل إلى معرفة المكلف به إلا بالتدبر والعرض على الأمور المعتادة أو الأسباب المعقولة في جعلها أسباباً للمصلحة، وسبلا للوقوف على ما في أصول تلك النوازل من الحكمة، ولا قوة إلا بالله.
ثم جعل تأديبهن إلى الأزواج، لا إلى الأئمة؛ إذ عقوبة الأئمة تكون بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه فيما له أمر بالتأديب مع ما في ذلك من الستر، ويكون الغالب منه ما لا يجد لسبيل الإظهار عند الحاكم، ويكون في أوقات تضيق عن احتمال ذلك، ويكون ذلك أصلا لتأديب كل كافلِ أحدٍ من الأيتام والصغائر، وغير ذلك، والله أعلم.
والأصل: أن الله - تعالى - قال:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم: 21] فجعل التأديب من الوجه الذي فيه حفظ المجعول لنا - آية، ورعاية ما جعل بينهم من المودة والرحمة، والمنازعات والخصومات إلى الحكام يقطع تلك؛ فجعل لهم من ذلك قدر ما لا يقطع مثله من التأديب المعنى المجعول بينهم؛ ولذلك لم تأذن بالضرب المبرح، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جعلت للألفة والمحبة، على أن في خفيف ذلك إظهار الإشفاق على ما اعترض من خوف انقطاع المودة والرحمة، وإبداء العتاب الذي هو آية النصح والرحمة؛ إذ ذلك مما يخاف في ترك ذلك تمام ما قد افتتح من السرّ والشفقة، والله أعلم.
وقيل في قوله - تعالى-: { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ }: بما ساقوا من المهر والنفقة.
وقوله - تعالى -: { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ }.
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يهجرها في حال مضاجعته إياها في ألا يكلمها، لا أن يترك مضاجعتها؛ إذ المضاجعة حق بينهما [عليه] في تركها ما عليها، لا يؤذيها بما يضر حقه ونفسه، والله أعلم.
ويحتمل قوله: أي اهجروهن عن المضاجع ومضاجعة أخرى في حقها؛ فيكون حقَّها عليه في حال الموافقة وحفظ حدود الله بينهما، لا في حال التضييع، والله أعلم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: يهجرها في ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، لكنه على هذا يشتركان في التأديب؛ لأنه [به] يؤدب نفسه في ذلك إلى حاجته، لكن المعنى من ذلك ألا يجامعها لوقت علمه بشهوتها وحاجتها، وإنما ينظر شهوته دونها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً }.
إن أطعنكم، أي: لا تطلبوا عليهن عللا.
وقيل: لا تكلفوهن الحبّ، وإنما جعل الله الموعظة والهجران والضرر في المضاجع.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: فإن أطاعته فلا سبيل له عليها.
ثم الضرب هو ما ذكرنا أنه يضربها ضرباً غير مبرح، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"عَلِّقْ سَوْطَكَ - أَوْ ضَعْ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ، وَلاَ تَضْرِبْهَا بِهِ" ، قيل: وبم نضرب؟ قال: بنعليك ضرباً غير مبرح، يعني: غير مؤثر ولا شائن.
ويروى في خبر آخر: قال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم:
"اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فِرَاشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكُسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ" .
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } هذا - والله أعلم - تذكير من الله عباده، وأمر منه إياهم: أنه مع علوه وسلطانه وعظمته وجلاله وقدرته، لا يؤاخذنا بأول عصيان نعصيه، ولا بأول عثرة نعثرها، مع قدرته على الأخذ على ذلك وإهلاكه إياهم، فأنتم لا تؤاخذوهن - أيضاً - بأول معصية يعصين فيكم، والله أعلم.
ويحتمل: ذكر هذه الآية وهو كذلك؛ ليذكر علوه وكبره؛ فيحفظ حده فيما جعل له من التأديب، ويذكر قدرته عليه.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } الآية.
كأن هذه المخاطبة - والله أعلم - لغير الأزواج؛ لأنه قال: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } ولو كانت المخاطبة في ذلك للأزواج، لقال: فإن "خافا شقاق بينهما"، أو "إن خفتم شقاق بينكم". وقوله - عز وجل -: { وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } الآية، خاطب بذلك الأزواج؛ لأنه قال: { وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ } وذلك إلى الزوج؛ إذ للزوج إذا خاف نشوز امرأته أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا فبعد ذلك هجرها، ثم يضربها إن لم تقبل ذلك؛ فإن لم ينفع ذلك كله فبعد ذلك رفع الأمر إلى الحاكم أو الإمام فوجه الحكمين.
وروي نحو ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: يُبْعَثُ الحكمان: حكمٌ من أهله وحكمٌ من أهلها، فيقول الحكم من أهلها: يا فلان، ما تنقم من زوجتك؟ [فإذا قال:] أنقم منها كذا وكذا، يقول: أرأيت [إن نزعت عما] تكره إلى ما تحب هل أنت تتقي الله وتعاشرها [بما يحق] عليك من نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال: نعم، قال الحكم من أهله: يا فلانة، ما تنقمين من زوجك؟ [فإذا قالت: أنقم منه كذا وكذا] فيقول: مثل ذلك؛ فإن قالت: نعم، جمع الله بينهما بالحكمين، بهما يجمع الله، وبهما يفرق.
ثم اختلف في الحكمين: هل يفرقان بينهما؟ قال بعضهم: يفرقان بينهما إن شاءا، وإن شاءا جمعاهما.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما.
وأما عندنا: فإنهما لا يفرقان إلا برضا الزوجين؛ [دليلنا] ما روي أن رجلا وامرأته أتيا عليّاً - رضي الله عنه - مع كل واحد منهما فئام من الناس؛ فقال علي - رضي الله عنه ما شأن هذين؟ قالوا: بينهما شقاق، قال علي - رضي الله عنه -: ابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، فقال علي - رضي الله عنه -: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله، قال الرجل: أما الفرقة فلا؛ فقال علي - رضي الله عنه -: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت.
أخبر علي أن فرقة الحكمين إنما تجب برضا الزوجين، فلو كانت فرقتهما تجوز بغير رضا الزوجين - لم ينظر إلى سخط الزوج في الفرقة، ولقال علي - رضي الله عنه - للحكمين: فرقا إن رأيتما ذلك، كره الزوج أو رضي.
وفي قوله - أيضاً - { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } أي: علمتم؛ إذ حق ذلك أن يجتهد في الحال بينهما فيعلم على الغالب، وللغالب حق العلم في الأعمال، وحق الريب في الشهادة، فذكر باسم الخوف على ما فيه من علم العمل، على أن في ظاهر الآية التفرق في المنزل حتى يبعث عن أهل كل واحد منهما ولو كانا في منزل واحد، فحقه أن يجمع بين الحكمين، [لا] أن يبعثا بذلك؛ يدل على ظهور الخلاف والشقاق، والله أعلم.
قال: وأمر الحكمين بالإصلاح بين الزوجين، وهو الأمر الذي أمر بين جميع المؤمنين من قوله:
{ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [الأنفال: 1] وقوله: { وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } [البقرة: 224] الآية، وقوله: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ } الآية، وذلك في حق التأليف وما به تمام الأخوة بقوله: { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات: 10] لا بما يضر به أهله، ويوجب التفريق بينهم والتباغض، وعلى ذلك أمر الحكمين في النكاح، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ }.
عن ابن عباس - رضي الله عنه -: { إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ }: هما الحكمان.
وعن مجاهد مثله.
وقال آخرون: قوله: { إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ }: هما الزوجان.
وفي الآية دليل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا؛ لأن الله - تعالى - قال: { إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً } وليس فيها دليل أن فرقتهما جائزة بشيء.
وقوله - عز وجل -:
{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } [البقرة: 229].
يدل على أن الخلع إليهما دون الحكمين، وكأن الحكمين يُوَجَّهَانِ؛ ليعرف مَنِ الظالم من الزوجين؟ يُسْتَظْهَرُ بهما على الظالم؛ لأن كل واحد منهما [إذا شكى] بين الناس من صاحبه - لا يعرف الظالم منهما من غير الظالم، فإن كان الزوج هو الظالم أُخِذَ على يده، وقيل: لا يحل لك أن تفعل هذا لتختلع منك، وأُمِرَ بالإنفاق عليها، وإن كانت هي الظالمة وكانت في غير منزلة ناشزة - لم يؤمر بالإنفاق عليها، وقيل له: قد حلت الفدية، وكان في أخدها معذوراً بما ظهر للحكمين من نشوز المرأة، والله الموفق.
وفي قوله - أيضاً -: { إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً } لا يخلو من أمرين: إما أن يريد به الزوجين، أو الحكمين.
ثم الإصلاح يكون مرة بالجمع، ومرة بالتفريق؛ فعلى الجمع تأويل التوفيق: الجمع بينهما، وعلى إرادة التفريق تأويله: التوفيق للإصلاح، وعلى التوفيق للإصلاح يدخل فيه الأمران، وفي ذلك أن الفرقة والاجتماع إليهما؛ إذ عليهما إرادة الإصلاح، وانصرف معنى الآية إلى الزوجين، وأيّد ذلك قوله - عز وجل -:
{ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً... } [النساء: 128] إلى قوله: { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ... } الآية [النساء: 129].
ثم قال - عز وجل -:
{ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ... } الآية [النساء: 130].
فعلى ما ظهر منه النشوز صرف أمر التفرق إلى الزوجين، وكذلك قوله - تعالى -:
{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ... } إلى قوله - تعالى -: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } [البقرة: 229] فأشركهما في الابتداء الذي به الفراق، أو يريد به الحكمين؛ فيكون ذلك على الترغيب في طلب الإصلاح بينهما، وعلى إيثار العدل والصواب؛ كقوله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ... } [النساء: 58] وقوله - تعالى -: { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ... } الآية [النساء: 135]. فإذا أرادا الإصلاح يوفق الله بينهما، له وجهان:
أي: بين الزوجين ببركة قيام الحكمين لله وابتغائهما الصلاح بينهما؛ فيوفق الزوجين لما له النكاح من: السكن، والرحمة، والمودة، والعفة.
ويحتمل: { يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ }: بين الحكمين في إصابة ما أرادا من الإصلاح. ثم العلم بإرادتهما الإصلاح لا يعلمه إلا الله؛ فلا يحتمل أن يوجب لهما في الحكم التفريق، والذي جوابه وعد التوفيق لم يبين، فلذلك لم يكن لهما حق التفريق، إنما إليهما إعلام ما اتفقا عليه، ثم هما عملا لهما وعليهما، فيكون لهما الرضا بما رأيا وغير الرضا، وأصله وجهان:
أحدهما: أنه استوجبا القيام بالتولية والتراضي من الزوجين أو بمن يخاف الشقاق بينهما: فإن قاما ببعث الناس، فقاما ببعث من لا يملك الفراق، [فلا] يستوجبان بهم ذلك، وإن قاما ببعث الزوجين فرضاؤهما بعثهما في ذلك لم يكن لهما غير الذي كان فيه الرضاء عليهما، والله أعلم.
والثاني: أنهما بعثا للعلم بالسبب الذي حملهما على الشقاق، ولعل السبب منهما؛ فلا يحتمل أن يلزمانه الطلاق بلا ذنب منه، فَيُمَكَّنُ به كل امرأة تريد مفارقة الزوج وإغرامه المهر، وإذا لم يحتمل ذلك لم يحتمل أن يكون لهما حق التفريق بهذا البعث مع ما بعثا لدفع الشقاق الهائج بينهما والرد إلى الصلاح الذي له كان النكاح، على أنه يمكن الأخذ على يدي الظالم منهما، والقهر على العود إلى ما فيه الصلاح بالتأديب - لم يجز أن يلزما الفراق وإن كرهاه، والله أعلم.
ثم الأصل: أنهما بالغان لا يلزمان النكاح إذا كرها ورأي القوم الصلاح إلى التناكح، على احتمال وجود الولايات في الأنكحة كانا ألا يلزما الطلاق إذا كرها على امتناعه عن وجوب الولايات به لغير الزوجين - أحرى، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } مَنْ الظَالِمُ منهما؟ ومَنِ المظلومُ؟
وقيل: { عَلِيماً خَبِيراً } بنصيحتهما لهما، عليماً بما أَسَرَّتِ المرأة إلى حكمها، والزوج إلى حكمه، خبيراً بما اطلع كل واحد من الحكمين من صاحبه على ما أفشى به إليه أصدقه أم لم يصدقه؟ والله أعلم.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "فأتوا حكمة من أهله وحكمة من أهلها".