خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
٥٦
لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٧
وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ
٥٨
إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
٥٩
-غافر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ }.
قال عامة أهل التأويل: إن اليهود جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال أنه منهم، وأنه في الطول كذا ونحوه؛ وعلى ذلك نسق الآيات التي تتلو هذه الآية.
ولكن لسنا ندري بماذا صرفوا مجادلتهم في آيات الله إلى المجادلة في الدجال، ولا يسع أن نحمل ما ذكر من مجادلتهم في آيات الله على المجادلة في الدجال، إلا أن يثبت خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التواتر أن المجادلة المذكورة في الآية في الدجال؛ فحينئذ يصرف إلى ذلك، والله أعلم.
ثم قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ } أي: يجادلون في دفع آيات الله بغير حجة أتتهم من الله، وكانت المجادلة في دفع آيات الله من رؤساء الكفرة وأكابرهم، كانوا يموهون بمجادلتهم في دفع آيات الله تعالى والطعن فيها على أتباعهم وسفلتهم؛ ليبقى لهم الرياسة والمأكلة التي كانت لهم، وهو ما ذكر:
{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ... } الآية [الأنعام: 112]، { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [الأنعام: 123] وغير ذلك من الآيات، لم يزل الأكابر منهم والرؤساء يطعنون في آيات الله تعالى ويدفعونها، يريدون التمويه والتلبيس على أتباعهم وسفلتهم، ليبقى لهم العز والشرف الذي كان لهم، ويبطلوا به الحق، ويطفئوا نوره؛ كقوله - عز وجل -: { لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [الكهف: 56]، وقوله - تعالى -: { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ } [التوبة: 32] هذا كان مرادهم من مجادلتهم في آيات الله والطعن فيها.
ثم أخبر - عز وجل - أنهم يجادلون، ويفعلون ذلك؛ تكبراً منهم على آيات الله والخضوع لرسله، حيث قال - عز وجل -: { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ }.
أي: ما في صدورهم إلا كبر، أي: كبرهم هو الذي حملهم على المجادلة في آيات الله، ثم الذي حملهم على الكبر جهلهم بسبب العز والشرف، ظنوا أن العز والشرف إنما يكون بالأتباع الذين يصدرون عن آرائهم، ولو عرفوا منهم يكون العز والشرف، لكانوا لا يفعلون ذلك، إنما العز والشرف في طاعة الله تعالى واتباع أمره، ليس في اتباع من اتبعهم ولا في ائتمار من ائتمرهم، ولكن فيما ذكرنا، والله أعلم.
ثم أخبر أنهم ليسوا ببالغين إلى ما قصدوا من إطفاء النور الذي أعطى المؤمنين، ولا إدحاض الحق وإبطاله حيث قال - عز وجل -: { مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ }، وقوله:
{ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [التوبة: 32].
وقوله - عز وجل -: { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }.
قال عامة أهل التأويل: أمره أن يستعيذ بالله من فتنة الدجال، لكن عندنا: أمره أن يتعوذ بالله من مكائد أولئك الأكابر والفراعنة، قد هموا أن يمكروا به ويكيدوا، أمره أن يتعوذ بالله من مكرهم وكيدهم، كما أمره أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حيث قال:
{ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ... } الآية [المؤمنون: 97]، وهذا أولى من الأول، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ }.
قال أهل التأويل: أي: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الدجال، لكن قد ذكرنا بعد صرف الآية إلى الدجال.
ثم يحتمل قوله: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } وجهين:
أحدهما: الآية نزلت في مقرين بخلق السماء والأرض، منكرين بالبعث؛ يقول: إن خلق السماوات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير أكبر وأعظم من إعادة الناس، فإذا عرفتم أنه قدر على خلق السماوات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير، لكان قدرته على إعادة الخلق أحق؛ إذ إعادة الشيء في عقولكم أهون من البداية؛ كقوله:
{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27]، فكيف أنكرتم قدرته على البعث وقد أقررتم بقدرته على خلق ما ذكر؟!
والثاني: أن تكون الآية نزلت في مقرين بخلق الناس منكرين بخلق السماوات والأرض؛ يقول: إن خلق السماوات والأرض وإمساكها في الهواء بلا تعليق من الأعلى ولا عماد من الأسفل، مع غلظها وكثافتها أكبر وأعظم في الدلالة على حدثها وخلقها من خلق الناس؛ لأن خلق الناس إنما يكون بالتغير والتولد من حال إلى الحال الأخرى، فيجوز أن يتوهم كون ذلك وافتراقه ثم اجتماعه من بعد وظهور ذلك منه، وأمّا السماء فهي على حالة واحدة فلا يتمكن توهم ذلك لما ذكرنا.
ويحتمل أن تكون الآية في نازلة كانت وسبب، لسنا نحن نعرف ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ }.
قال بعضهم: لا يستوي من عمي من توحيد الله وشكر نعمه [و]من أبصر وحدانية الله وقام بشكر نعمه، كما لم يستو عندكم من جهل حق آخر وكفر نعمه وإحسانه [و]من عرف حقه وقبل إحسانه وقام بشكره، فإذا عرفتم أنه لا استواء بين هذين عندكم، فاعرفوا أنه لا يستوي من عمي عن وحدانية الله وشكر نعمه [و]من أبصر وحدانيته وقام بشكره، وكذلك ما ذكر من قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ } يقول: إذا عرفتم أنه لا يستوي من آمن بالله وصدق خبره وأحسن إليه [و]من كذبه وأساء إليه؛ فعلى ذلك لا يستوي من آمن بالله وصدقه وقابل إحسانه بالشكر [و]من كذبه وكفره نعمه وإحسانه.
وقال بعضهم: أراد بقوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } حقيقة الأعمى البصر والبصير نفسه؛ يقول: تعرفون أنه لا يستوي الأعمى أعمى البصر [و]البصير نفسه في الدنيا؛ فعلى ذلك لا يستوي من عمي عن دينه [و]من أبصر في الآخرة، وقد عرفتم أنهم قد استووا في هذه الدنيا - أعني: المسيء والمحسن والصالح والمفسد والمطيع والعاصي - وفي الحكمة: التفريق بينهما؛ دل أن هناك داراً أخرى يفرق بينهما فيها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ }.
أي: قليلا ما يتذكرون أن لا استواء بين من ذكر من المحسن والمسيء والصالح والمفسد والمطيع والعاصي، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } أخبر أنها آتية لا محالة وقد ذكرنا: إنما صار خلق الدنيا وما فيها حكمة بالساعة { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } بها، والله أعلم.