خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ
٧٩
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ
٨٠
قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ
٨١
سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٨٢
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٨٣
وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ
٨٤
وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٥
وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٨٦
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٨٧
وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٨٨
فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
٨٩
-الزخرف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ }.
ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من إبرامهم أمراً ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله تعالى:
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 30] إبرامهم أمرا: هو مكرهم الذي مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر، والله أعلم.
ويحتمل: أن يكون إبرامهم الذي ذكر غير ذلك، وكيفما كان، ففيه وجهان من الدلالة:
أحدهما: ليعلموا أن الله - تعالى - عالم سميع بما يبرمون فيما بينهم من أمر سرّاً؛ لأنه في ظنهم أن الله لا يعلم ولا يسمع ما يبرمون من الأمر سرّاً، ولذلك قال تعالى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم }.
والثاني: فيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنهم أبرموا ذلك الأمر فيما بينهم سرّاً، ثم أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أبرموا وأحكموا من الأمر؛ ليعرفوا أنه إنما علم ذلك بالله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ }.
يحتمل: فإنا جازون جزاء إبرامهم.
ويحتمل: { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي: إلينا يرجع تدبير إبرامهم الأمر ومكرهم جميعاً؛ وعلى ذلك قوله:
{ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } [الرعد: 42] على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقوله - عز وجل -: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم }.
أي: بل يحسبون على ما ذكرنا: أن حرف الاستفهام منه يخرج على الإيجاب؛ كأنه قال: بل يحسبون؛ ألا ترى أنه قال: { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا }.
وقوله: { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }.
هذا وعيد وتنبيه منه لهم؛ يخبر أن رسله يكتبون ما يسترون ويخفون من المنكر وغيره؛ ليكونوا أبدا على حذر ويقظة، والله أعلم.
وقوله: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } له بالتعالي والتنزيه عن الولد، أي: وأنا أول من يعبد الرحمن بالإيمان والتصديق أنه ليس له ولد، على هذا أعبد الله تعالى.
والثاني: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين، وهو من عَبِدَ يَعْبِد، أي: أنف يأنف، فيكون هذا تنزيه تَصريحٍ عن الولد، والأول تنزيه له بالكناية، هذا إذا كان معنى قوله: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ } ما كان للرحمن ولد.
ثم قوله - عز وجل -: { فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } يخرج على التأويل - أيضاً - على وجهين:
أحدهما: أي: لو كان للرحمن ولد على زعمكم وعلى ما عندكم فأنا أول من أتبرأ عن أن يكون له ولد، وأدعوكم إلى الرحمن الذي لا ولد له، وهو كقوله - تعالى -:
{ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص: 62-74] أي: أين شركائي [الذين] تزعمون أنتم أنهم شركاء؟ وقوله تعالى: { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [طه: 97] أي: انظر إلى إلهك الذي هو في زعمك إله.
والثاني: يحتمل أن يقول له: قل: لو كان يجوز أو يحتمل أن يكون له ولد، فأنا أول من أعبده على ذلك، أو أول من أقول أنا بذلك، فإذ لم أقل بذلك وأنا رسول الله، فظهر أنه لا يحتمل ولا يجوز أن يكون له ولد، وهو كقوله - تعالى -:
{ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [الزمر: 4] أي: لو كان يجوز أن يريد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ممن عنده وممن شاء، لا مما هو عندكم ومما تختارون أنتم، لكن لا يحتمل ولا يجوز أن يتخذ ولداً.
وقال بعضهم في قوله - تعالى -: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } يقول: كما أني لست أول من عبد الله، فكذلك ليس للرحمن ولد؛ كقول الرجل: لو كان ما تقول حقّاً فأنا حمار، معناه: ليس الذي تقوله بحق، كما أني لست بحمار، والله أعلم.
[ثم] نزه نفسه عن الولد، وأنه لا يجوز أن يكون له ولد حيث قال: { سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي: رب السماوات، ورب الأرض، ورب من فيهن، ورب العرش.
قال أهل التأويل: أي: رب السرير.
لكن لا يحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - السرير، فينسب إلى السرير، فيقال: رب السرير، ويجوز لغيره - أيضاً - أن يقال له: رب السرير، فيثبت المشاركة في النسبة بينه وبين الخلق، إلا أن يقال: إن لذلك السرير عند الخلائق موقعاً وقدراً عظيماً يليق القسم به، وإنه من أعظم المخلوقات وأعجبها، فكان نسبة هذا إلى الله - سبحانه وتعالى - من باب التعظيم والإجلال له بمنزلة نسبة كل العالم إليه؛ فيكون جائزاً، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - هو الملك؛ يقول: سبحان رب السماوات والأرض ورب الملك عما يصفون، ثم قد بينا حكمة ذكر السماوات والأرض على إثر ذكر الولد في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } هذا - في الظاهر - أمر بتركهم على ما هم عليه من الخوض واللعب وغيره، ومثل هذا مما لا يليق بالحكمة؛ إذ هو حرام في العقل، لكن يخرج على الوعيد، وإن كان صيغته صيغة الأمر، كقوله:
{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40] هو في الظاهر وإن كان أمراً فهو في الحقيقة وعيد، فعلى ذلك هذا يخرج على الوعيد.
ويحتمل أن يخرج على ترك المكافأة على ما يصنعون من الاستهزاء بهم، والأنواع من الأذى إلى اليوم الذي يلاقون ويعاينون العذاب حين لا تنفعهم الندامة في الرجوع في ذلك اليوم.
وأصل ذلك أن الله - تعالى - قد أوعدهم بمواعيد شديدة، ووعظهم بمواعظ بليغة، فلم تنجع تلك المواعيد فيهم، ولا نفعهم شيء من ذلك.
والثاني: قد بين ما يزيل عنهم الشبه، وما يوجب التعلق به، [و] أوضح لهم طريق الحق والهدى، فلم يسلكوا مسلك طريق الحق، فأوعد لهم بما ذكر في ذلك اليوم ما لا تنفعهم ندامتهم في ذلك الوقت، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ } الإله في اللغة هو المعبود؛ كأنه يقول - والله أعلم -: إنكم تعلمون أن الله - تعالى - هو المعبود في السماء، وهو المعبود في الأرض، والأصنام التي تعبدونها أنتم لا يعبدها إلا أنتم، فكيف تركتم عبادة المعبود الذي هو معبود في السماء والأرض، واخترتم عبادة من ليس بمعبود إلا بعبادتكم؟!.
ويحتمل أن يقول: تعلمون أنتم أن الله - سبحانه وتعالى - هو إله السماء والأرض وإله من فيهما، وأنه خالق ذلك كله؛ لقوله:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25] والأصنام التي تعبدونها لم يفعلوا ذلك، ولا يملكون شيئاً من ذلك، فكيف اتخذتموها آلهة دونه؟! والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } ذكر الحكيم والعليم على إثر ذلك يخرج على وجهين:
أحدهما: لسؤال الثنوية: أن الله - عز وجل - لا يجوز أن يبسط الرزق ويوسع الدنيا على من يعلم أنه يعاديه ويشتمه، ويعادي أولياءه ويشتمهم؛ لأن في الشاهد من يصنع إلى من يعلم أنه يعاديه معروفاً فليس بحكيم، فعلى ذلك يقولون: إن ذلك ليس من الله - تعالى - ولكنه من إله غيره سفيه؛ لأنه وصف نفسه بالحكمة، وأنه يزيل الحكمة.
و[الثاني]: لقول البراهمة في إنكارهم الرسالة أصلا، يقولون: ليس من الحكمة بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويكذب رسله ولا يقبل رسالته؛ بل يقتله ويعاديه؛ لذلك ينكرون رسالة الرسل، فأخبر - تعالى - بقوله: { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } أن إعطائي إياهم ما أعطيتهم وبعثي الرسل إليهم على علم مني بما يكون منهم من التكذيب والعداوة - لا يخرجني عن الحكمة، ويخرج فاعل ذلك في الشاهد عن الحكمة؛ لأن ملوك الأرض إنما يرسلون الرسل ويبعثون الهدايا لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، فإذا علموا من المبعوث إليهم الرسل والمصنوع إليهم المعروف ما ذكرنا - خرج من الحكمة، فأما الله - تعالى - إنما بعث الرسل لحاجة المبعوث إليهم، ولمنافع أنفسهم، فكذلك ما يعطيهم من الدنيا لمنافع أنفسهم؛ فلم يخرج بذلك من الحكمة؛ لأنه لا تضره معاداة من عاداه، ولا تنفعه موالاة من والاه؛ بل كل ذلك راجع إليهم؛ بل صنع ما يصنع من المعروف إلى من يعلم أنه يعاديه يكون وصفاً له بغاية الكرم والجود، كذلك ما ذكرنا، وبطل قوله الثنوية والبراهمة، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } قوله: { وَتَبَارَكَ } قال أهل التأويل: أي: تعالى وتعاظم عما قالت الملاحدة فيه من الشريك، والولد، والصاحبة، وغير ذلك مما لا يليق به، ولا يجوز؛ فيكون تنزيهاً عن جميع ما قالوا فيه، وهو كحرف { سُبْحَانَ } الذي يكون تنزيهاً عما قالوا فيه، والله أعلم.
قال بعض أهل الأدب: { وَتَبَارَكَ } هو من البركة، لكن بعض العلماء قالوا: إن هذا التأويل لا يصح؛ لأن قوله: { وَتَبَارَكَ } هو من وقوع البركة بنفسه، فهو اسم ملازم، ولا يجوز أن يوصف الله - تعالى - بوقوع البركة، لكن عندنا { وَتَبَارَكَ } هو تفاعل، والتفاعل هو فعل اثنين؛ فجائز نسبة البركة إليهما على حقيقة وقوعها بأحدهما وهو الخلق للإيصال؛ على ما هو الأصل في مثل هذا، وله نظائر كثيرة.
وأصل تأويل { وَتَبَارَكَ }: ما قاله أهل التأويل: تعالى وتعاظم عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد، والشريك، وغير ذلك، لكن هو على التأويل، لا على تحقيق الاسم، فنظيره ما فسروا في قوله [صلى الله عليه وسلم]:
"وتعال جدُّك" أي: عظمتك، والجد هو في الحقيقة ليس هو اسم العظمة، ولكن هو خروج الأمر على ما يريد ويشاء، ويسميه الناس فيما بينهم بالفارسية: بختا، فسروا الجد بالعظمة؛ لنفاذ مشيئة العظيم، وخروج الأمور على ما يريده ويشاؤه، فعلى ذلك تفسيرهم { وَتَبَارَكَ } بما قالوا: تعالى وتعاظم على التأويل، لا على تحقيق الاسم؛ إذ هو من البركة، لكن كل من بورك فيه صار متعالياً، فأطلقوا عليه { وَتَبَارَكَ } بمعنى: تعالى، لا بمعنى حقيقة الاسم، والله أعلم.
ثم قوله: { وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } بيان منه وتعليم للخلق ما يجوز النسبة [له] فقال: { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }، وقال:
{ وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [النحل: 52]، ونحو ذلك، يبين لهم أن ينسبوا إليه هذا، ولا ينسبوا إليه من الولد، والشريك، والصاحبة ونحو ذلك؛ لأن نسبة الأشياء بكليتها يخرج مخرج الوصف له بالعظمة والجلال، نحو ما ذكرنا من قوله - تعالى -: { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } وقوله: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 29]، [وقوله:] { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 120]، وقوله: { خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 102]، ونسبة خاصية الأشياء إليه يخرج مخرج التعظيم والتبجيل لتلك الأشياء، وثم ينظر بعد هذا: فإن كانت تلك الأشياء الخاصة مما يجوز تعظيمها نسبت إليه وأضيفت، نحو قوله: بيت الله، ومساجد الله، ورسول الله، وغير ذلك من الأشياء التي عظمها الله - تعالى - ورفع قدرها ومنزلتها عنده، وإن كانت الأشياء مما يستقذر ويستقبح ويسترذل فلا يجوز النسبة إليه والإضافة؛ لما ذكرنا أن نسبتها إليه وإضافتها يخرج مخرج التعظيم لها، وهي ليست بمعظمة، ولكنها مسترذلة مستقذرة؛ فيكون وضع الشيء غير موضعه، وأنه خلاف الحكمة، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } يخرج على وجوه:
أحدها: أي: عنده علم ساعة: الصعقة؛ كقوله - تعالى -:
{ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ... } الآية [الزمر: 68].
ويحتمل { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }: الزلزلة؛ كقوله:
{ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1].
ويحتمل: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }: الفزع والهول؛ كقوله:
{ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ... } الآية [النمل: 87].
ويحتمل: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }: القيامة؛ كقوله - تعالى -:
{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [المطففين: 6]، ونحو ذلك، والله أعلم.
أخبر أنه لم يطلع الله - عز وجل - على حقيقة ما ذكر أحداً من خلقه.
وقوله: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قد ذكرنا في غير موضع: أن تخصيص ذلك بالرجوع إليه يخرج على وجوه، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين فيه إلى الله - تعالى - صائرين إليه:
أحدها: لأن المقصود من إنشائهم ذلك - أعني: البعث - كي لا يكون خلقهم عبثاً، على ما ذكرنا غير مرة.
ويحتمل أنه خص ذلك اليوم بالرجوع إليه والمصير والخروج؛ لأنه يومئذ يخلص خروجهم ورجوعهم إليه وانقيادهم له، وقد ذكرناه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } إن قوماً كانوا يعبدون الملائكة؛ رجاء أن يكونوا لهم شفعاء؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضلهم عند الله - تعالى - وذلك معروف في الناس أنهم يخدمون ويكرمون خواص ملوكهم رجاء أن يشفع لهم أولئك الخواص عند الملك إذا نزل بهم بلاء ووقعت لهم حاجة يوماً من الدهر، فعلى ذلك هؤلاء الكفرة كانوا يعبدون الملائكة؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضل منزلتهم عند الله تعالى.
ثم أخبر - عز وجل - عن الملائكة أنهم لا يملكون الشفاعة بقوله:
{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] وهو قوله: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }، أي: إلا لمن شهد بوحدانية الله - تعالى - وألوهيته، لا يشفعون لأولئك، إنما يشفعون لمن ذكر، وإن كانت لهم خصوصية عند الله - تعالى - لأن الله - عز وجل - نهى أولئك أن يعبدوا الملائكة ويعظموهم من جهة العبادة؛ لذلك لا يملكون الشفاعة لهم؛ فيكون مثل هذا مثل ملك نهى قومه أن يخدموا أو يعظموا أحداً سواه من خواصه، فإذا فعلوا ذلك وخدموهم وتركوا نهيه لا يملك أولئك الخواص ولا يتجاسرون على طلب الشفاعة عند الملك لأولئك الذين نهاهم الملك أن يخدموهم ويعظموهم دونه، فعلى ذلك الملائكة، لم يجعل لهم شفاعة لأولئك الذين عبدوهم دونه إلا لمن ذكر، وهم: الذين شهدوا بالحق، وقاموا بعبادة الله - تعالى - فقد أذن الله لهم بالشفاعة لأولئك، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } أي: لو كانت لهم الشفاعة لكانت لا تنفعهم؛ كقوله - تعالى:
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر: 48] أي: لو كانت لهم شفعاء لكانت لا تنفعهم شفاعتهم، ليس أن يكون لهم شفاعة أو شفعاء، وهو كقوله - تعالى -: { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ... } الآية [المائدة: 36]، وكقوله - عز وجل -: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ... } [البقرة: 123]؛ فعلى ذلك يحتمل قوله - عز وجل -: { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } أي: لا ينفعهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يخرج قوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } على وجهين:
أحدهما: يرجع إلى الملائكة، فيكون كأنه يقول: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة وهم يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة.
والثاني: يرجع إلى من شهد بالحق، يكون كأنه يقول: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أنهم يشهدون بالحق، والشهادة بالحق ما ذكرنا، يعني: يشهدون على وحدانية الله - تعالى - وألوهيته، وأنه هو المستحق بالعبادة دون من عبدوهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }، وقال في أول السورة:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } [الزخرف: 9]، ثم نعته فقال: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ... } [الزخرف: 10] إلى آخر ما ذكر؛ قد أقروا جميعاً: أن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم وما يحتاجون إليه هو الله تعالى.
ثم علمهم وعرفانهم بذلك يحتمل وجوهاً:
يحتمل: علم حقيقة على التسخير والاضطرار بأن أنشأ الله - تعالى - علماً في قلوبهم، فعلموا بذلك حقيقة أن الله - عز وجل -: هو خالق ذلك كله.
ويحتمل علموا علم الاستدلال بالتأمل والنظر؛ إذ من عادة العرب التأمل والنظر في الأشياء، فنظروا وتأملوا، فعرفوا بالاستدلال العقلي أنه كذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } يقول: فأي شيء يصرفهم ويأفكهم عن القيام بوفاء ما أعطوا بألسنتهم، وتحقيق ما أقروا ونطقوا أن الله خالق ذلك كله، وأن ذلك كله منهم، وجعل ذلك لمن يعلمون أنه [لا] شيء من ذلك منهم، وبعد معرفتهم بذلك، أعني: الأصنام التي يعبدونها، والله الهادي.
وقال أهل التأويل: أي: فأنى يكذبون بعد علمهم ومعرفتهم ذلك في تسميتهم معبودهم: إلهاً، أو شكرهم غير الذي صنع ذلك لهم بالعبادة له دون الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ } قرئ بنصب اللام وكسرها فمن قرأه بالنصب جعله مقطوعاً على قوله: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } ونسمع قيله؛ أي: قوله الذي أغفلوه؛ أي: بل نسمع ذلك كله.
ومن قرأه بالكسر عطفه على قوله: { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي: عنده علم الساعة وعلم قيله.
وقوله - عز وجل -: { يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } كأنه على الإضمار، أي: قيل لهم: قل: إن هؤلاء قوم لا يصدقون.
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أخبر أنهم لا يؤمنون، وقد كان على ما أخبر لم يؤمنوا؛ دل أنه بالله عرف ذلك وعلمه.
وقوله - عز وجل -: { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ } أي: أعرض ودعهم، { وَقُلْ سَلاَمٌ } أي: قل الصواب والحق { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } يوماً، فهو وعيد لهم.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَقُلْ سَلاَمٌ } أي: سلام عليهم، لكنه على المؤمنين، ليس على أولئك الكفرة: { فسوف تعلمون } بالتاء يكون لو صرف إلى المؤمنين، وهو كقوله تعالى:
{ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 54] فيكون كأنه - عز وجل - قال: فسوف تعلمون أيها المؤمنون ما ينزل بأولئك، والله أعلم.