خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ
١٦
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٧
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩
هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٢٠
-الجاثية

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ } قال أهل التأويل: أي: التوراة.
والإشكال: أنه آتى بني إسرائيل جملة كتباً كثيرة، أمّا التوراة والإنجيل والزبور هي كتب معروفة قد نعرفها، وقد يجوز أن يكون لهم كتب غيرها، فما معنى ذكر الكتاب؟ وما معنى حملهم على أن التوراة [هي المرادة]، إلا أن نقول: يجوز أن يريد بذكر الكتاب: الكتب؛ فإنه أدخل الألف واللام، فيكون لاستغراق الجنس.
ويحتمل أنّه أراد به التوراة، كما قال أهل التأويل؛ إذ يجوز أن يذكر اسم العام ويراد به الخاص، وهو الواحد منهم.
ويحتمل أن تكون التوراة هي الكتاب الذي فيه عامة الأحكام، فإنه قيل: إن الزبور ليس فيه الحكم، إنما فيه التسبيح والتحميد، وكذا الإنجيل ليس فيه إلا أحكام قليلة، فيجوز أن يكون المراد: التوراة لهذا، والله أعلم.
وقوله: { وَٱلْحُكْمَ } قال بعضهم: { وَٱلْحُكْمَ } أي: فهم ما فيه.
وقال بعضهم: { وَٱلْحُكْمَ }: فقه ما في الكتاب؛ إذ الحكم الظاهر داخل تحت قوله: { ٱلْكِتَابَ } بين بقوله: { وَٱلْحُكْمَ } أنه أعطى الحكم الظاهر فيه، والحكم المستخرج منه بالاستنباط والاجتهاد، والله أعلم.
ويحتمل أن يراد بالكتاب: هو ما يتلى فيما بينهم وبين ربهم، والحكم هو ما أمرهم فيه أن يحكموا فيما بين العباد والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱلنُّبُوَّةَ } إنما ذكر النبوة؛ لأن النبوة كانت ظاهرة في بني إسرائيل، فإنه ذكر أن في بني إسرائيل كذا كذا رسولا ونبيّاً، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } قد كان رزقهم [من] الطيبات ما ذكر من المنّ، والسلوى، وغير ذلك من الطيبات، [ما] لا يحصى.
وقوله - عز وجل -: { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } قد ذكرنا تفضيلهم على العالمين في موضعه.
وقوله - عز وجل -: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } قال بعضهم: { بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } أي: آيات من الأمر.
وقيل: { بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } أي: ما بين لهم من الحلال والحرام والشبه، ونبأ ما كان قبلهم، والله أعلم.
ويحتمل { بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } أي: بيان ما تقع الحاجة إليه من الأمر.
وعندنا { بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } يخرج على وجهين:
أحدهما: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } أي: بينات التكوين ودلالات لما جعل الله لهم في نفس كل أحد من دلالات وحدانيته وألوهيته.
أو ما أقام من الآيات في العالم على التكوين يدل على جعل الألوهية والربوبية له.
وقوله - عز وجل -: { فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } على ما ذكرنا من أمر التكوين؛ أي: ما اختلفوا في صرف الألوهية والوحدانية عن الله - تعالى - إلى غيره { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي: إلا من بعد ما بين لهم أن الألوهية والربوبية [له] بالدلالة الواضحة والحجة النيرة، وأنّ له الخلق والأمر؛ إلا أنه ذكر العلم وأراد به أسباب العلم ودلائله، والله أعلم.
والثاني: يحتمل قوله - تعالى -: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ }: أمر المجيء من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وبيان ما يؤتى و[ما]يتقى، وما لهم وما عليهم.
ثم قوله - عز وجل -: { فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } واختلافهم فيما امتحنوا يتوجه إلى وجوه:
أحدها: ما اختلفوا فيما امتحنوا من الدين، أو فيما امتحنوا في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجابة له إلى ما يدعوهم إليه والطاعة له.
ويحتمل: اختلافهم الذي ذكر الاختلاف في القرآن، أو فيما امتحنوا من التحليل والتحريم.
ثم يخبر الله - تعالى جل وعلا - أنهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بالحق في ذلك والبيان أنه من الله، وأن ما هم عليه باطل مضمحل.
ثم أخبر أن اختلافهم إنما هو لبغي بينهم وحسد، حملهم ذلك على الاختلاف فيما بينهم.
ثم أخبر أنه { يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }.
ثم قوله - تعالى -: { يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: يجزيهم في الآخرة جزاء اختلافهم في الدنيا.
أو { يَقْضِي }: أي: يفصل ويبين لهم يوم القيامة الحق من الباطل، والمحق والمبطل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا } يحتمل أن يكون هذا صلة قوله - تعالى -: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } كأنّه يقول: وآتيناهم بينات من الأمر، وجعلنا ذلك شريعة لك، فاتبعها أنت وإن لم يتبعوها هم.
والشريعة: هي الملة والمذهب، وهي ما شرع فيه ويذهب إليه؛ كذلك قاله القتبي؛ قال: يقال: شرع فلان في كذا إذا أخذ فيه، ومنه: مشارع الماء: الفُرَض التي يشرع فيها الناس والواردة.
وقال أبو عوسجة: الشريعة: السنة، والله أعلم.
ثم أخبر أن الذي هم عليه إنما هو هوى النفس، فقال - عز وجل -: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.
يحتمل قوله - تعالى -: { لاَ يَعْلَمُونَ } لما لم يتأملوا فيه ولم يتفكروا ما لو تأملوا وتفكروا فيه لعلموا؛ لأنه قد ذكر في أوّل الآية أنهم إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم؛ أي: جاءهم من دلائل العلم ما لو تأملوا ونظروا فيها لعلموا.
والثاني: نفى عنهم العلم؛ لما لم ينتفعوا بما علموا وما جعل لهم من العلم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي: لو اتبعت أهواءهم { لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ }؛ أي: لم يغنوا أولئك عن دفع ما ينزل بك من عذاب الله شيئاً، وهو ما قال في آية أخرى:
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ... } [الإسراء: 73] إلى قوله: { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ... } الآية [الإسراء: 75].
ثم أخبر أن الظالمين بعضهم أولياء بعض بقوله: { وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } يحتمل ولاية الدين والمذهب؛ أي: بعضهم يوالي بعضاً في الدين.
ويحتمل في غيره؛ أي: يلي بعضهم أمر بعض في الإعانة والنصرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } يحتمل: أي: يلي أمور المتقين.
ويحتمل: { وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: ناصرهم ومعينهم.
وقوله - عز وجل -: { هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } سمى الله - تعالى - هذا القرآن: بصائر، وهو ما يبصر به، ومرة: هدى، وبياناً، ورحمة، ونوراً، ونحوه، وهو هكذا، هو هدى، وبيان، ونور، وبصيرة لمن اتبعه ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل وقبله.
ويحتمل: { بَصَائِرُ }: بيان يبين لهم أنه من الله، فيبين لهم الحق من الباطل، ويبين [ما] لهم وما عليهم لمن ذكر { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.