خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ
٢٧
وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٢٨
هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٢٩
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ
٣٠
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
٣١
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
٣٢
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٣
وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٣٤
ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ
٣٥
فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٦
وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣٧
-الجاثية

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } هذا يخرج على وجوه:
أحدها: ولله ملك كل ملك في السماوات والأرض.
أو { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }؛ أي: خزائن السماوات والأرض، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود، رضي الله عنه.
أو يقول: ولله حقيقة ملك السماوات والأرض.
فإن كان التأويل هو الأول فإن له ملك كل ملك في السماوات والأرض، ففيه إخبار وإعلام بليغ أتباعَ أولئك الملوك، و[ذوي] التعظيم لهم، والإجلال، والخدمة لهم بما في أيديهم من الملك والسلطان وفضل الأموال [ألا يصرفوا ذلك إليهم]؛ بل فيه الأمر بصرف ذلك كله إلى الله - تعالى - والقيام له بالشكر، لا لأولئك؛ لأن الذي في أيديهم لله - تعالى - وهو الجاعل في أيديهم، والواضع عندهم، فإليه يلزم صرف الشكر والعبادة، والله أعلم.
وإن كان تأويل الملك: الخزائن، ففيه قطع الأطماع عما في أيدي الناس، والأمر بصرف ذلك إلى الله - تعالى - والرجاء منه دون من سواه، والله أعلم.
وإن كان الثالث، وهو أن حقيقة الملك لله - تعالى - ففيه أنه فيما امتحنهم في الدنيا بأنواع المحن لم يمتحنهم لمنفعة ترجع إلى نفسه، أو لمضرة يدفع عنها، وكذلك ما يثيبهم في الآخرة ويعاقبهم، ليس يفعل ذلك لمنفعة كانت له في الدنيا أو دفع مضرة عنه، ولكن لحكمة أوجبت ذلك لهم وعليهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ } سمى القيامة: ساعة، فجائز أن يكون سماها [بذلك]؛ لسرعة قيامها، أو نفاذها؛ كقوله - تعالى -:
{ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77].
أو أن يكون سماها بذلك؛ لما يكون حسابهم وأمرهم يوم القيامة إنما يكون في ساعة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ } يحتمل: أي: يومئذ يبين خسران المبطلين في الدنيا، وعلى ذلك يبين خسران كل مشتركين في تجارة الدنيا؛ إذا [اشتركوا] في عمل عند القسمة يتبين خسران عملهم وتجارتهم.
وأصله أن الله - تعالى - جعل الدنيا وما أنشأ فيها من الأموال والأملاك رءوس أموال لأهلها يتجرون ويكتسبون بها الربح في الآخرة، وأنه إنما أنشأ الدنيا للآخرة، لا أنه أنشأها لنفسها؛ ولذلك قال:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية [التوبة: 111]، وقال: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [البقرة: 207] ونحوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } يحتمل أن يكون ما ذكر من الجثو للركب في الآخرة تعريف لهم وإنباء أنهم يختصمون يوم القيامة جاثين للركب، كما يختصم في الدنيا عند الحكام والأمراء جاثين للركب، والله أعلم.
ويحتمل أن يذكر جثوهم؛ لما لا تقوم بهم الأقدام، أو لا تحملهم؛ لهول ذلك اليوم والخوف فيها؛ فيكونون جاثين للركب ويقومون بها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } يحتمل: { كِتَابِهَا }: كتاب كل في نفسه، وهو كقوله - تعالى -:
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [الإسراء: 13]، وقوله - تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } [الحاقة: 19] و { أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ } [الحاقة: 25] ونحوه.
ويحتمل أن يكون قوله: { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } الذي دعيت كل أمة إليه في الدنيا؛ من نحو القرآن، ونحوه؛ فيقال: يأهل الإنجيل، يأهل التوراة، ونحو ذلك، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } أي: إلى حسابها الذي عملت في الدنيا؛ تفسير ذلك ما ذكر:
{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ } [الأنعام: 93].
وقوله - عز وجل -: { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } يحتمل الكتاب الذي أضاف إلى نفسه هو القرآن الذي كان ينطق لهم بالحق؛ أي: بالحق الذي لله عليهم، وما لبعضهم على بعض.
أو { بِٱلْحَقِّ } أي: بالصدق بأنه من الله - تعالى - والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ذلك الكتاب هو الكتاب الذي يكون لكلٍّ بالانفراد للذي كتبته له الملائكة مما عملوا من خير أو شر، وهو كقوله - تعالى -:
{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } اختلف في تأويله:
قال بعضهم: إن الحفظة تكتب أعمال بني آدم ثم يعارضون ذلك بما في اللوح المحفوظ المكتوب فيه: أن فلاناً يعمل كذا وكذا، فلا يزيد شيء ولا ينقص.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول قريباً من هذا: إن في السماء كتاباً عليه ملائكة، والملائكة الذين مع بني آدم يستنسخون من ذلك الكتاب ما يعملون، ثم قال: وهل تكون النسخة إلا من كتاب أو شيء، والله أعلم.
وقال بعضهم: ملكان موكلان بالكتابة، يكتب كل واحد منهما ما يعمله، فإذا أرادا أن يصعدا إلى السماء فيعارض كل واحد منهما كتابه الذي كتبه مع كتاب الآخر فلا يخطئ حرفاً مما كتب هذا ما كتب الآخر، والله أعلم.
وقال بعضهم: عرض كتاب الناس الذي عملوا كل يوم أو كل خميس، فينسخ منه الخير والشر، وما يثاب عليه وما يعاقب، ويلقى ما سوى ذلك مما لا ثواب له ولا عقاب، والله أعلم.
ويحتمل أن يراد من الانتساخ: ابتداء الكتابة من غير أخذ من كتاب أو نحوه، فإنه يجوز أن يستعمل الانتساخ في ابتداء الكتابة على غير أخذ من الكتاب أو غيره، نحو أن يقول الرجل: انتسخته، أي: كتبته، فيكون كأنه قال: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } أي: نكتب ما كنتم تعملون ونثبته عليكم من خير أو شر، فيخرج لهم كتبهم التي فيها أعمالهم، فكانت عليهم حجة، وهي التي كتبت عليهم الحفظة.
وقال أبو عوسجة: الجاثية هي التي جثت واجتمعت، ويقال: تجاثينا: أي: بركنا على ركبنا للخصومة.
وقال القتبي: جاثية على الركب، يراد: أنها غير مطمئنة.
وقوله - عز وجل -: { تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا } أي: إلى حسابها.
وقوله: { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ } يريد: أنهم يقرءونه فيدلهم ويذكرهم؛ فكأنه ينطق عليهم.
وقوله تعالى: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } أي: نكتب على ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: آمنوا بجميع ما كان عليهم الإيمان به والتصديق.
وقوله - عز وجل -: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي: عملوا بما فيه صلاحهم، وما يوجبه الحكمة من العمل { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } أي: في جنته، سمى الجنة: رحمة؛ لأنها تنال برحمته، ويدخل فيها.
أو سماها: رحمة؛ لأنها هي النهاية والغاية التي تطلب بالرحمة وتراد بها.
وقوله: { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } الآية.
الفوز: هو الظفر بما يؤمل ويرجو من العمل، أو يقال: الفوز: هو الفلاح الذي لا خوف بعده، والله أعلم.
وقوله: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } كأن فيه إضماراً؛ لأن قوله - تعالى -: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } إنما هو إخبار عن المعاينة.
وقوله - تعالى -: { أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } خطاب ومشافهة، فليس هو من جواب الأول، ولا من نوعه؛ فكأنه قال - والله أعلم -: وأما الذين كفروا في الدنيا فيقال لهم في الآخرة إذا طلبوا الرجوع والإقامة أو التخفيف ذلك: { أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } في الدنيا.
ثم يحتمل: آياته: آيات وحدانيته وألوهيته، أو آيات قدرته وسلطانه على التعذيب، أو آيات قدرته على البعث أو آيات رسالته، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَٱسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } لا أحد يقصد قصد الاستكبار على آيات الله، لكنهم لما كذبوها وردوا آياته ولم يعملوا بها، فكأنهم استكبروا عليها، وهو كما قال:
{ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [مريم: 44] ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكنهم لما عبدوا الأصنام بأمر الشيطان فكأنهم عبدوه.
ويحتمل أن يكونوا استكبروا على رسله؛ فيكون استكبارهم على رسله كأنهم استكبروا على آياته، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } قيل: المجرم هو الوثاب في المعصية، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } كان عندهم فيها ريب، لكنهم لو تأملوا ونظروا فيما أقام من آياته، زال عنهم الريب الذي كان لهم فيها.
ويحتمل أن يقال هذا على الإيقان إذا كان القائل به موقناً، وإن كان الذي يقال له شاكّاً في ذلك.
والأول أقرب وأشبه.
ثم الناس رجلان في الساعة:
موقن بها ومتحقق، ولكن في العمل لها والاستعداد لها كالظان.
والثاني: ظان بها، شاك فيها جاحد لها ومكذب كالموقن ألا تكون.
ثم الإيقان بالشيء هو العلم بالأسباب الظاهرة، وقد يدخل في تلك الأسباب أدنى شبهة وشك؛ لذلك ذكر فيه الظن، والله أعلم.
وأما العلم بالشيء قد يكون بالسبب، وقد يكون بالتجلي له بلا سبب؛ ولذلك وصف الله - تعالى - بالعلم، ولم يوصف بالإيقان، ولا يقال: إنه موقن؛ لما ذكرنا: أن أحدهما يكون بأسباب والآخر لا - والله أعلم - فيتمكن في الإيقان أدنى شبهة وشك، وقد يعمل غالباً لأسباب على حقيقة الأعمال؛ نحو المكره على الشرّ يعلم بما أوعد به بغالب أسبابه ليس على الحقيقة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: بدا لهم أنّ الأعمال في الدنيا أنها أسباب في الآخرة؛ لأنهم عملوها في الدنيا وعندهم أنها حسنات، فيظهر لهم في الآخرة أنها سيئات.
والثاني: { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي: ظهر لهم في الآخرة وتذكروا سيئات ما عملوا في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: نزل بهم، ووجب ما كانوا يستعجلون من الرسل، وهو العذاب الذي كانوا يوعدونهم؛ لأنهم كانوا يستعجلون ذلك استهزاء منهم بهم بأنه غير كائن، ولا نازل بهم ما كانوا يوعدونهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا }، والإشكال: أنهم كيف ينسون يومئذ؟ لأنهم لو كانوا ينسون، لسلموا من العذاب، لكن ما ذكر من النسيان يخرج على وجهين:
أحدهما: كنى بالنسيان عن الترك؛ يقول: اليوم نترككم في النار وفي العذاب كما تركتم أنتم العمل لذلك اليوم والنظر فيه.
والثاني: على التمثيل؛ أي: اليوم نصيركم في النار كالشيء المنسي لا يكترث إليكم، ولا يلتفت، ولا يعبأ بكم كما صيرتم أنتم ذلك اليوم كالشيء المنسي، لم تكترثوا إليه، ولم تعملوا له، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } جعل الله - تعالى - النار لهم مأوى بإزاء كل ما افتخروا في الدنيا على رسل الله - عليهم السلام - وأتباعهم من المنازل، والمراكب، والملابس، وغير ذلك، وأخبر أنه لا ناصر لهم يملك إخراجهم من تلك النار والمأوى الذي جعل لهم، ولا يقدر دفع ذلك عنهم، والله أعلم.
ثم أخبر أن بعض ذلك الذي أصابهم ونزل بهم إنما كان بما ذكر من اتخاذهم آيات الله هزوا في الدنيا، هزوا بها وسُخراً بالرسل، عليهم السلام.
ثم آيات الله يحتمل ما ذكرنا من آيات وحدانيته وألوهيته، أو آيات قدرته وسلطانه على البعث، أو آيات رسالة الرسول، عليه السلام.
وقوله - عز وجل -: { وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } قد ذكرنا فيما تقدم معنى نسبة التغرير إلى الحياة الدنيا، وإضافته إليها وإن لم يكن منها على التحقيق تغرير وخداع، وهو أنهم إنما اغتروا بها، فنسب فعل التغرير إليها، هي غرتهم، وقد ينسب الفعل إلى السبب الذي به صار ذلك، وإن لم يكن منه حقيقة ذلك؛ نحو قوله - تعالى -:
{ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } [يونس: 67] أي: يبصر به، وذلك كثير في اللغة.
أو يقال: إن ما كان منها، لو كان ذلك ممن يحتمل التغرير ويملك ذلك كانوا تغريراً، والله أعلم.
وقوله: { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } اختلف في قوله: { وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ }:
قال بعضهم: إنهم يعاتبون إلى أن يدخلوا النار: إنكم فعلتم كذا، وتركتم كذا، ولم فعلتم كذا؟ فإذا دخلوا النار يترك العتاب ويجعل كالشيء المنسي فيها، والله أعلم.
وقال بعضهم: { وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } أي: لا يسترجعون إلى ما يطلبون من العود والرجوع إلى العمل الصالح؛ لقولهم:
{ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ... } الآية [فاطر: 37].
ثم في قوله: { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً }، وقوله:
{ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ... } الآية [الكهف: 53]، وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ } [البقرة: 46] - دلالة ألا يجب أن يفهم على ظاهر ما خرج الخطاب؛ لأنه ذكر الظن في المؤمنين، والمراد به: الإيقان، لا ظاهر الظن، وذكر في الكافرين الظن وأريد به الحقيقة، ولا يجوز أن يفهم من الظن في الفريقين معنى واحد، بل يفهم من هذا غير الذي فهم من الآخر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } إن جميع ما ذكر في القرآن من الحمد له فإنما ذكر لأحد شيئين:
أحدهما: بما يستحق من الثناء بتعاليه عن جميع معاني الخلق وأوصافهم.
والثاني: بما يستحق من الثناء [بتفضله] عليهم بالنعم والإحسان الذي منه إليهم، وهو ما قال:
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2] و { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 1]، ونحو ذلك، والله أعلم.
وأصل آخر: أنه إذا أضيفت كلية الأشياء إلى الله - تعالى - ففيه وصف له بالعظمة والجلال وإذا أضيفت جزئية الأشياء إليه وخاصيتها، فإنما فيه تعظيم تلك الخاصية المضافة إليه، وفي قوله - تعالى -: { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } إضافة كلية الأشياء إليه والخاصية والجزئية، ففيه الأمران جميعاً، فإن قوله - عز وجل -: { فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ } إضافة جزئية الأشياء إليه وخاصيته، وقوله - عز وجل -: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } إضافة كلية الأشياء إليه، والله أعلم.
وقد تقدم ذكر الرب في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: وله الوصف بالكبرياء والعظمة على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة.
أو: من حقه على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة والجلال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي: هو العزيز الذي لا يلحقه الذل بخلاف الخلق له ولا بعصيانهم.
أو { وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ } بما به يتعزز من أعز دونه، ومن وصف بعز دونه، فذلك راجع في الحقيقة إليه، { ٱلْحَكِيمُ } الذي وضع كل شيء موضعه، أو الحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، والله الموفق، والحمد لله رب العالمين.