خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
٨
لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١٠
-الفتح

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } قوله: { شَٰهِداً } لله ما لله - تعالى - على عباده، [و]ما لبعضهم على بعض؛ فعلى هذا التأويل يكون قوله: { شَٰهِداً } أي: مبيناً؛ أي لتبين ما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض؛ وهو قول أبي بكر الأصم.
وقال بعضهم: أي: شاهداً للرسل - عليهم السلام - بالتبليغ بالإجابة لمن أجابهم، وشاهداً على من أبى الإجابة بالإباء والرد، فعلى هذا التأويل يكون قوله: { شَٰهِداً } على حقيقة الشهادة؛ على ما ذكرنا، والله أعلم.
وقال بعضهم: أي: أرسلناك شاهداً على أمتك وعلى الأنبياء - عليهم السلام - بالتبليغ ومن ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }: البشارة: هي تذكر عواقب الخيرات والحسنات، والإخبار عن أحوالها: أنها إلى ماذا يفضي أربابها وعما لهم؛ ليرغبهم فيها.
والنذارة: هي تذكر عواقب الشرور والسيئات، والإخبار عن أحوالها أنها إلى ماذا يفضي أربابها ومرتكبيها؛ ليزجرهم عنها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } خاطب بهذا البشر كلهم وفي الأول خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول على الجمع بينهما في الخطاب: أرسلناك رسولا شاهداً؛ لتؤمنوا أنتم بالله ورسوله.
ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ أي: إنا أرسلناك مبشراً ونذيرا، وقل لهم: إنما أرسلت لتؤمنوا بالله ورسوله، وهو كقوله - تعالى -:
{ يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1]، معناه: يأيها النبي، قل لهم: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، فعلى ذلك جائز ما ذكرنا، والله أعلم.
وقرئ بالياء، وهي ظاهرة.
ثم الإيمان بالله - تعالى - هو أن يشهد له بالوحدانية والألوهية، وأن له الخلق والأمر في كل شيء وكل أمر.
والإيمان برسوله: هو أن يشهد له بالصدق في كل أمر، وبالعدالة له فيما يحكم ويقضي، ويصدقه في كل ما يقوله، ويجيبه في كل ما يدعو إليه، ويطيعه في كل أمر يأمر به، وينهى عنه؛ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتُعَزِّرُوهُ } اختلف فيه:
قال بعضهم: أي: تنصروه وتعينوه.
وقال بعضهم: أي: تطيعوه.
وقال بعضهم: أي: تعظموه.
فمن يقول: إن قوله: { وَتُعَزِّرُوهُ } ليس على النصر والإعانة، ولكن على التعظيم، أو على الطاعة - استدل بما قال في آية أخرى:
{ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } [الأعراف: 157] ذكر التعزير وعطف النصر عليه؛ والمعطوف غير المعطوف عليه، فدل أنه غير النصر، ولكن جائز أن يذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين ومعناهما واحد على التأكيد، وكذلك من يقول بالتعظيم يقول: أمرهم بتعظيمه في الحرفين؛ أعني: قوله: { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } وذلك جائز في الكلام.
ويحتمل أن يكون التعزير هو الطاعة له، والتوقير هو التعظيم، وفي الطاعة له تعظيمه، والله أعلم.
ومن قال بالنصر والمعونة في التبليغ تبليغ الرسالة إلى الخلق، والدفع عنه، والذب، والتعظيم له في قلبه وجميع جوارحه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } والتسبيح، أجمع أهل التأويل أن قوله - تعالى -: { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً } راجع إلى الله - تعالى - وكذلك ذكر في بعض القراءة { ويسبحون الله بكرة وأصيلا }، والتسبيح هو التنزيه في الأفعال والأقوال، فجائز نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان برئيا من العيوب في أفعاله وأقواله لا يدخل في أفعاله وأقواله عيب، وإن كان هو تنزيهاً عن الحدثية، والفناء، وآفات كل في نفسه، فذلك لا يجوز إضافته ونسبته [إلا] إلى الله - عز وجل - فأما غيره لا يجوز إضافة ذلك إليه.
وأصله ما ذكر أهل التأويل من صرفه إلى الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } صرف أهل التأويل البكرة إلى صلاة الفجر، والأصيل إلى صلاة المغرب والعشاء، ولكن جائز أن تكون البكرة كناية عن النهار، والأصيل كناية وعبارة عن الليل، فكأنه يقول: سبحوه بالليل والنهار جملة في كل وقت، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } أجمع أهل التأويل أو عامتهم على أن المبايعة المذكورة في هذه الآية هي البيعة التي كانت بالحديبية، بايعوه على ألا يفروا إذا لقوا عدوا.
قال معقل بن يسار: "لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة؛ أي: ألف وأربعمائة نفر، وقال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر".
وجائز أن تكون المبايعة على ألا يفروا كما ذكر في آية أخرى:
{ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ } [الأحزاب: 15] والمبايعة هي المعاهدة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ } ذكر في أول الآية المبايعة، وفي آخرها المعاهدة؛ ليعلم أن المبايعة والمعاهدة سواء، والله أعلم.
ثم إضافة مبايعتهم رسوله إلى نفسه يحتمل وجهين:
أحدهما: لما بأمره يبايعونه.
أو ذكر ونسب إلى نفسه؛ لعظيم قدره، وجليل منزلته عنده، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } قال بعضهم: يد الله في جزاء المبايعة فوق أيديهم في المبايعة؛ أو كلام نحوه.
وجائز أن يكون قوله { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي: يد الله في الجزاء إذا وفوا بالعهد فوق أيديهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم عنده يد، فيخبر أن جزاء الله الذي يجزيهم بوفاء تلك المبايعة فوق أيديهم التي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من يد الله وإضافتها إليه يريد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول: يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندكم فيما بايعكم فوق أيديكم عنده؛ لما يحتمل أن يقع عندهم أن يكون لهم يد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بما بايعوه؛ كقوله - تعالى -:
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ... } الآية [الحجرات: 17]؛ فيخبر أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق أيديكم عنده بالمبايعة التي بايعتم، والله أعلم.
ويحتمل: أي: يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد والبسط بالمبايعة فوق أيديهم، والله أعلم.
ويحتمل قوله: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي: توفيق الله - تعالى - إياكم ومعونته على مبايعتكم رسوله فوق وخير من وفائكم ببيعته وعهده، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله: { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي: يد الله في النصر لرسوله فوق أيديهم؛ كقوله - تعالى -:
{ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [آل عمران: 126] حقيقة النصر إنما يكون بالله تعالى؛ ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي: من نكث فعليه ضرر نكثه، وإليه يرجع ذلك الضرر لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم أجمعين - لأن الله - جل وعلا - وعد النصر له والظفر بأولئك، فمن نكث فإنما يرجع ضرر نكثه إليه؛ إذ الله يفي لرسوله صلى الله عليه وسلم ما وعد الله من النصر له، والله أعلم.