خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
-الحجرات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة؛ لأن السخرية إنما تقع وتكون في الأغلب بين قوم وقوم، وقلما تقع بين الأفراد والآحاد؛ فعلى ذلك جرى النهي، ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعاً، والله أعلم.
لم يحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهينن:
أحدهما: في الأفعال، يقول: لا يسخر قوم من قوم في الأفعال عسى أن يكونوا خيراً منهم في النية في تلك الأفعال أو خيراً منهم؛ أي: أفعالهم أخلص عند الله من أفعال أولئك، وأقرب إلى القبول.
والثاني: سخرية في الخلقة، وذلك راجع إلى منشئها، لا إليهم، وهم قد رضوةا بالخلقة التي أنشئوا عليها، وعسى أن يكونوا هم على تلك الخلقة عندهم خيراً منهم.
ثم قوله - عز وجل -: { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } يحتمل وجهين:
أحدهما: عسى أن يصيروا من بعدهم خيراً من تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم.
والثاني: عسى أن يكونوا هم عند الله خيراً منهم في الحال؛ كقوله - عز وجل -: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أخبر أن الأكرم منهم عند الله - تعالى - هو أتقاهم، ولا ما افتخروا بما هو أسباب الفخار عندهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } ذكر سخرية نساء من نساء؛ لأن النساء ليس لهن اختلاط مع الرجال حتى تجري السخرية بينهم، وإنما الاختلاط في الغالب بين الجنس يكون، فعلى ذلك جرى النهي بالسخرية، والله أعلم.
ويحتمل أنه خص هؤلاء بهؤلاء كما خص القصاص في قوله:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ... } الآية [البقرة: 178]، ثم جمع بين الأحرار والعبيد، والذكور والإناث بالمعنى الذي جمعهم فيه، وهو ما ذكر: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [البقرة: 179] أبان عن المعنى الذي به وجب القصاص فيما بينهم، فاشتركوا جميعاً في ذلك: الأحرار والعبيد، والذكور والإناث، فعلى ذلك ذكر المعنى الذي به نهاهم عن السخرية، وهو ما ذكر { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } فذلك المعنى يجمع سخرية الرجال من النساء، وسخرية النساء من الرجال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } واللمز: هو الطعن.
ثم منهم من يقول: هو الطعن باللسان.
ومنهم من يقول: بالشدق والشفة.
ومنهم من يقول: بالعين؛ وحاصله هو الطعن فيه.
وقال القتبي: اللمز: هو العيب؛ أي: لا تعيبوا.
وقال أبو عوسجة: هو شبه العيب.
ثم قوله - عز وجل -: { أَنفُسَكُمْ } يحتمل وجهين:
أحدهما: { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي: تذكروا مساوى أنفسكم عند الناس.
وفيه الأمر بالستر عليهم وعلى أنفسهم، وألا يهتلكوا سترهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أي: لا تدعوا بالألقاب، والنبز: اللقب؛ يقال: نبزت فلاناً: أي: لقبته، وفي الحجيث: "قوم نبزهم الرافضة" أي: لقبهم، ولو قال: { وَلاَ تَنَابَزُواْ } لكان كافياً، لكن كأنه قال: ولا تظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللقب، والله أعلم.
طثم قال بعض أهل التأويل: إنما نهو عن ذلك؛ لأنهم يسمونهم بعد إسلامهم بالأفعال التي كانوا يفعلون في حال جاهليتهم من الكفر والفسوق، ويلقبونهم بذلك، ويقولون: يا كافر، يا فاسق، ونحو ذلك، ودل على ذلك قوله - تعالى -: { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ }.
وجائز أن يلقبوا بذلك وبغيره من الألقاب، فنهوا عن أن يسموهم بغير أسمائهم التي كانت لهم، وأن يعرفوا بأسمائهم اتي لهم، ونهوا عن التعريف بالألقاب وتغيير الأنساب والأسماء التي لهم إذا كان التعريف بذلك يسوءهم ويغطيهم، والله أعلم.
ثم قال الله - تعالى -: { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي: واضعون الشيء في غير موضعه، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا؛ أي: بئس النسبة إلى الفسق التي كانت والتسمية بها بعد الإيمان إلى الاسم والفعل الذي كان له ومنه قبل الإيمان؛ كأنه قال: لا تسموهم بتلك [الأسماء] بعد الإيمان، والله أعلم.
والثاني: { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } أي: بئس ما اختار من اسم الفسق بعدما كان اختار اسم الإيمان وفعله، فهذا يرجع إلى اختيار الفسق بعد الإيمان، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ }.
هاهنا أسماء ثلاثة يجب أن يتعرف ما محلها؟ وما قدرها؟ وكيف أسبابها؟ أحدها: الظن، والثاني: الشك، والثالث: العلم واليقين.
أما الظن فكأه هو الذي له ظاهر الأسباب التي لها خوف الزوال والانتقال.
والشك هو الذي فقد ظاهر أسبابه، أو له استواء الأسباب، ومقابلة بعضها بعضاً، فهو المتردد بين الحالين، لا يقر قلبه على شيء.
واليقين هو الذي له الأسباب الظاهرة التي ليس لها خوف الزوال الانتقال، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } كأنه نهى أن يحقق أو يعمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال يجوز أن تكون غير متحققه في الأصل أو زائلة، والله أعلم.
ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يجتنب عنه، ولا كل الظن يكون إثما؛ لأنه استثنى منه بعضه بقوله: { بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } فجائز أن يكون ما استثنى من الظن، ولا يأمر بالاجتناب عنه هو ما يغلب عليه الأسباب، وغالب الأسباب ربما تعمل عمل العلم واليقين بحق المكره على شيء يرخص له أو يباح العمل إذا رأى من ظاهر المكره أنه فاعل به ما أوعده، وإن كان يجوز ألا يفعل به أو لا يقدر على ما أوعده، وعلى ذلك موضوع عامة الأحكام والشرائع بين الخلق أنها على غالب الظن وضعت ليس على التحقيق، والله أعلم.
ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن؛ إذ يجوز أن يظن بالإنسان الظن الحسن؛ ولا إثم فيه، إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقيق أسباب أو غير تحقيق عين ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } التجسس: هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم أسبابها شيء، فنهى عن تكليف طلب ذلك أو من الإظهار وأمر بالستر، ويمثل ذلك روي في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قيل له: هل لك في فلان يعطر لحيته خمراً، فقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: إن يظهر لنا شيء نأخذه، وإلا فإن الله - تعالى - قد نهانا عن التجسس، والله أعلم.
وفرق بعضهم بين التجسس والتحسس، فقال بعضهم: بالجيم في الشرور والمساوئ، وبالحاء في الخير وفيما يباح طلبه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } الغيبة ترجع إلى وجهين:
أحدهما: أن يذكر ما فيه من مساوئ الأفعال التي سترها عن أعين الناس مما يكره إظهار ذلك عنه.
والثاني: يذكر ما فيه من قبح الأحوال والأخلاق التي لا يكاد يذكر ذلك منه أو يظهر، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يذكر الرجل أخاه بما فيه مما يكره، فقيل: إنما كنا نذكره بالشيء الذي فيه، لا بما ليس فيه، قال: "ذلك البهتان".
وقوله - عز وجل -: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد موته، فكأنه يقول: فإذا لم يحب هذا وكرهه؛ بل يستقذره كل استقذار فالغيبة هي تناول من أخيك وهو حي، فهو في القبح يبلغ التناول منه بعد موته، فإنه كان لا أحد يتناول من لحم أخيه بعد موته، لا في حال اختياره، ولا في حال اضطراره، فلا تغتابوا ولا تذكروا منه ما فيه؛ فإنه في القبح ذلك.
وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } تأويل الآية على وجهين:
أحدهما: إنما خلقناكم جميعاً من أصل واحد، وهو آدم وحواء - عليهما السلام - فيكونون جميعاً إخوة وأخوات، وليس لبعض الإخوة والأخوات الافتخار والفضيلة على بعض بالآباء والقبائل التي جعلنا لهم، إنما القبائل وما ذكر للتعارف والفضيلة والكرامة فيما ذكر { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } مع ما لو كان في ذلك فضيلة وافتخار، فالكل في النسبة إليهم على السواء؛ فلا معنى لانفراد البعض بالافتخار.
والثاني: يحتمل: إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع، والحر والعبد، والذكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة؛ إذ كانوا جميعاً من نطفة مذرة منتنة تستقذرها الطباع.
ذكر هذا؛ ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ }، ثم اختلفوا في تأويل قوله: { لِتَعَارَفُوۤاْ }:
قال بعضهم: الشعوب أكبر من القبائل، فالشعوب هم الأصول، والقبائل: الأفخاذ منهم، فالشعوب للعرب، والأمم والقرون للعجم.
وقال بعضهم: الشعوب للعجم، والقبائل للعرب.
وقال أبو عوسجة: الشعوب: الضروب، وهي القبائل، والواحد: شعب، والشعب الاجتماع؛ يقال: شعبت الإناء: إذا انكسر فجمعته وأصلحته، ويسمى من يصلح الإناء: شعاباً، والشعب: التفريق - أيضاً - والشعوب: المنية، ونحو ذلك.
ثم قوله - عز وجل -: { لِتَعَارَفُوۤاْ } أي: جعل فيكم هذه القبائل؛ ليعرف بعضكم بعضاً بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ؛ فيقال: فلان التميمي والهاشمي؛ إذ كل أحد لا يعرف بأبيه وجده.
ثم قال - عز وجل -: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } بين الله - تعالى - بما به تكومن الفضيلة والكرامة، وهي التقوى، لا فيما يرون ويفتخرون بذلك، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل؛ بل ذلك لما ذكر من التعارف؛ وهذا لأن التقوى فعله، وهو إتيان الطاعات والاجتناب عن المعاصي، وذلك مما يأتيه تعظيماً لأمر الله - تعالى - ونهيه.
وجائز أن تنال الفضيلة والكرامة بفضل الله وكرمه بناء على فعله، فأمّا ما لا فعل له في التولد من آباء كرام فأنى يستحق الفضل بذلك لو كان افتخاراً بما يكون للآباء بمباشرتهم أسباب حصول الأولالد ليوحدوا الله - تعالى - ويتمسكوا بطاعته، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } على الوعيد.