خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٤٥
وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٤٦
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٤٧
-المائدة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ... } إلى آخرة.
أخبر الله - عز وجل - أنه كان كتب على أهل التوراة: { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ }، وقد كتب علينا أيضاً - قتل النفس بالنفس بقوله - تعالى -:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [البقرة: 178]؛ كأنه قال: كتب عليكم القصاص في النفس بالنفس، كما كنت كتبت [عليهم].
وأما القصاص فيما دون النفس: فإنه لم يبين في الآية التي أخبر - عز وجل - أنه كتب علينا القصاص في النفس.
ثم يحتمل أن يكون قوله: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ... } إلى آخر ما ذكر وجهين:
يحتمل: أن يكون إخباراً عما كان مكتوباً عليهم من القصاص فيما دون النفس: كالنفس؛ ألا ترى أنه قد قرىء في بعض القراءات بالنصب؛ نسقاً على الأول؟!
ويحتمل: على الابتداء على غير إخبار منه، ولكن على الإيجاب ابتداء؛ والذي يدل على ذلك قوله: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } لا يحتمل أن يكون هذا في الخبر؛ لأن ذلك ترغيب في العفو في الحادث من الوقت؛ دل أنه ليس على الإخبار، ولكن على الابتداء؛ ألا ترى أكثر القراء قرءوا بالرفع غير قوله: { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ }، فإنه بالنصب؟!.
ثم ذكر { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ }، ولم يذكر اليد والرجل، وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: لما يحتمل أن يكون القصاص في اليد ظاهراً، فَيُسْتَدَلُّ بوجوبه فيما هو أخفي على وجوبه - فيما هو أظهر منه؛ لأن المنتفع بالبصر والأنف والسمع ليس إلا صاحبه، وقد يجوز أن ينتفع غيره بيد آخر وبرجله.
والثاني: أن يكون وجوب القصاص في اليد في قوله: { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ }.
ثم تخصيص الأسنان بوجوب القصاص دون غيرها من العظام؛ لأن الأسنان بادية ظاهرة، يقع عليها البصر - يقدر على الاقتصاص [فيها]، وأما غيرها من العظام: مما لا يقع عليها البصر، ولا يقدر على الاقتصاص [فيها] إلا بعد كسر آخر وقطع لحم؛ لذلك خصت الأسنان بالاقتصاص دون سائر العظام، والله أعلم.
ثم فيه دليل وجوب القصاص في العضو الذي لا منفعة فيه سوى البهاء - بذهاب البهاء؛ لأنه ذكر الأنف والأذن، وليس في الأنف والأذن إلا ذهاب البهاء؛ فأوجب في ذهاب البهاء القصاص؛ كما أوجب في ذهاب المنفعة؛ وعلى هذا يخرج قولنا: وجوب الدية في ذهاب البهاء على الكمال، كوجوبها في ذهاب المنفعة على الكمال.
[على أن] أهل العلم مجمعون أن القصاص واجب بين الرجال الأحرار في "العين، والأنف"والأذن والسن"، "والجروح" التي ليس فيها كسر عظم؛ إذا جنى على شيء من ذلك عمدا بحديدة.
وأما القصاص بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار فيما دون النفس: فأهل العلم اختلفوا فيه، وكان أصحابنا - رحمهم الله - لا يرون القصاص بينهم في ذلك، ويرون القصاص في الأنفس، [فأهل العلم اختلفوا فيه]، ويفرقون بينهما، والفرق بينهما: أن جماعة لو قتلوا رجلاً قتلوا به، ولو قطع جماعة يد رجل لم تقطع أيديهم؛ فالتفاضل في الأنفس غير معتبر به، ويعتبر به فيما دون النفس، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ذكراً كافياً.
وقوله - عز وجل -: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: هو صاحب الدم كفارة لما كان ارتكب هو، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ لَهُ كَفَّارَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ" .
وقال بعضهم: قوله: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }، يعني: كفارة للقاتل إذا عفا الولي، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وعن مجاهد: هو كفارة للجارح، وأجر المتصدق على الله.
والأوّل كأنه أقرب وأشبه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.
هذا إذا ترك الحكم بما أنزل الله جحوداً منه، فهو ما ذكر، كافر.
{ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ }.
قوله تعالى: { وَقَفَّيْنَا }: أي: أتبعنا على آثارهم، وهو من القفا.
وقوله: { آثَارِهِم } يحتمل وجهين:
يحتمل: على آثار الرسل.
ويحتمل: على آثار الذين أنزل فيهم التوراة.
وقوله - عز وجل -: { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ }.
أخبر أنه كان مصدقاً ما بين يديه من التوراة؛ فهذا يدل أن الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - كان يصدق بعضهم بعضاً فيما أنزل عليهم من الكتب، تأخر أو تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ }.
[{ هُدًى }]: من الضلالة لمن تمسك به، { وَنُورٌ } لمن عمي ولمن استناره.
{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ }.
فهذا يدل أن الكتب كانت مصدقة بعضها بعضاً على بُعد أوقات النزول [مما] يدل: أنه من عند واحد نزل، جل الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
وقوله - عز وجل -: { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }.
يحتمل: موعظة للمؤمنين؛ لأن المؤمن هو الذي يتعظ به، وأما غير المؤمن فلا يتعظ به.
ويحتمل قوله: { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }: الذين اتقوا المعاصي كلها.
وفي قوله: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }، وكذلك قوله - تعالى -:
{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [البقرة: 178] - دلالة أن القصاص للعبد خاصة؛ حيث رغبه في العفو عنه والترك له، ليس كالحدود التي هي لله تعالى؛ لأنه لم يذكر في الحدود العفو ولا التصدق به، وذكر في القصاص والجراحات؛ دل أن ذلك للعبد: له تركه، وسائر الحدود لله ليس لأحد إبطالها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }.
ذكر في موضع: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ }، وفي موضع: { ٱلظَّالِمُونَ }، وفي موضع: { ٱلْفَاسِقُونَ } فأمكن أن يكون كله واحداً: أن من لم يحكم بما أنزل الله جحوداً منه له، واستخفافا؛ فهو كافر، ظالم، فاسق.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من الكفر بترك الحكم بما أنزل الله؛ إذا ترك الحكم به جحوداً منه وإنكاراً، وما ذكر من الظلم والفسق ذلك في المسلمين؛ لأنه قال: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ... } إلى آخر ما ذكر، ثم قال: { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }، ثم قال: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } تركوا الحكم بما أنزل الله؛ اتباعاً لأهوائهم لا جحوداً، فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والفسق: هو الخروج عن الأمر؛ كقوله - تعالى -:
{ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف: 50]، أي: خرج.
ثم يجيء أن يكون هذا في حال الجهل به والعلم سواء؛ لأنه إذا لم يحكم بما أنزل الله فقد وضع الشيء في غير موضعه، وخرج عن أمر ربه، لكن هذا في القول يقبح أن يقال: هو ظالم فاسق، وهو ما يفعل، إنما يفعل عن جهل به، يجوز أن يقال: فعله فعل ظلم وفسق، وأما في القول: فهو قبيح؛ لما ذكرنا.
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ }: من الأحكام أي حكم كان، فهو ما ذكرنا، والله أعلم.