خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ
٦٥
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
-المائدة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ... } [الآية].
قال الحسن: [قول اليهود]: "يد الله مغلولة"، أي: محبوسة ممنوعة عن تعذيبنا؛ لقولهم:
{ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18].
وقوله - عز وجل -: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ }.
في الآخرة بالسلاسل إلى أعناقهم.
وقوله - عز وجل -: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }.
بالمغفرة والتعذيب؛ يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "قولهم: "يد الله مغلولة": لا يعنون بذلك أن يده موثقة مغلولة حقيقة اليد والغل؛ ولكن وصفوه بالبخل، وقالوا: أمسك ما عنده؛ بخلا منه، تعالى الله عن ذلك.
وقال آخرون: إن الله - تبارك وتعالى - قد كان بسط على اليهود الرزق؛ فكانت من أخصب الناس وأكثرهم خيراً، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم، وكفروا به، وبدلوا نعمة الله كفراً بالنعمة - كف الله - تعالى - عنهم بعض الذي كان بسط عليهم من السعة في الرزق؛ فعند ذلك قالوا: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }، لم يقولوا: يده مغلولة إلى عنقه، ولكن ممسكة عنهم الرزق، فلا يبسط كما كان يبسط؛ وهو كقوله:
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29]: نهى عن البخل في الإنفاق، لا أنه أراد حقيقة غل اليد إلى عنقه؛ فعلى ذلك قولهم: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }: كناية عن البخل ووصف به، لا حقيقة الغل، وبالله العصمة.
وتأويل قوله: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } على هذا التأويل، أي: أيديهم هي الممسكة عن الإنفاق، وهم الموصوفون بالبخل والشح.
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }، أي: نعمه مبسوطة: يوسع على من يشاء، ويقتر على من يشاء.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: بل يداه يبسطان.
قال الفراء: يقال: وجه مبسوط، ووجه بسط.
ثم لا يحتمل أن يفهم من إضافة اليد إلى الله ما يفهم من الخلق؛ لما وجد إضافة اليد إلى من لا يحتمل أن يكون له اليد، من ذلك قوله - تعالى -:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت: 42]: لا يفهم من القرآن اليد كما يفهم من الخلق؛ فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من إضافة اليد إلى الله - تعالى - كما يفهم من الخلق؛ ألا ترى أنه قال: { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج: 10] و { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30]، لم يفهم منه اليد نفسها؛ وكذلك قوله: { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [آل عمران: 182]، لكن أضيف ذلك إلى اليد؛ لما باليد يقدم ويعطي ويكسب؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1]، ومعلوم أنه لم يفهم من اليد: اليد نفسها، ولكن أضيف ذلك إليها؛ لما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ }.
قيل: عذبوا بما قالوا: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }، واللعن - في اللغة -: هو الطرد؛ كأنه قال: طردوا عن رحمة الله وأيسوا عنها حتى لا ينالوها أبداً بقولهم الذي قالوا.
وقيل: فيه إخبار: أنهم يموتون على ذلك، ولا يؤمنون، فماتوا على ذلك؛ فذلك دليل رسالته، عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }.
قيل فيه بوجهين:
قيل: يريد ما أنزل [الله] إليك من القرآن، { كَثِيراً مِّنْهُم }، يعني: اليهود { طُغْيَاناً وَكُفْراً }.
وقيل: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }: من البيان عما كتموا من نعته وصفته التي كانت في كتابهم، وما حرفوا فيه وغيروه من الأحكام؛ فذلك مما زادهم طغياناً وكفرا.
قيل: { طُغْيَاناً }، أي: تمادياً بالمعصية، { وَكُفْراً }: بالقرآن.
وقيل: الطغيان: هو العدوان، وهو المجاوزة عن الحدِّ الذي حد.
فإن قيل: ما معنى إضافة زيادة الطغيان إلى القرآن، والقرآن لا يزيد طغياناً ولا كفراً؟:
قيل: إضافة الأفعال إلى الأشياء تكون لوجوه ثلاثة:
منها: ما يضاف لحقيقة الفعل بها.
ومنها: ما يضاف للأحوال.
ومنها: ما يضاف لمكان ما به يكون الفعل، وهاهنا أضيف ذلك إلى القرآن؛ لما كان فيهم من الطغيان والكفر لمكان ما أنزل إليهم بالكفر الذي كان فيهم؛ وهو كقوله - تعالى -:
{ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم: 36]: إنهن لا يضللن أحداً في الحقيقة؛ ولكن لما صاروا بهن ضلالا أضيف إليهن، وكقوله - عز وجل -: { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [الأنعام: 70] والحياة الدنيا لا تغر أحداً؛ ولكن لما [لو] كانت لها حواس لكان ما أبدت من الزينة لغرت.
وقوله: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ }: بين اليهود والنصارى، أي: لا يحب اليهودي نصرانيّاً، ولا النصراني يهوديّاً.
وقال آخرون: { بَيْنَهُمُ }، أي: بين اليهود؛ لأن اليهود على مذاهب مختلفة وأهواء مشتتة: منهم من يقول: عزير ابن الله، ومنهم من يذهب مذهب التشبيه. هم على أهواء مختلفة، فبينهم عداوة وبغضاء، على ما ذكرنا الاختلاف الواقع بينهم.
ثم معنى ما أضاف من إلقاء العداوة بينهم إلى نفسه لا يخلو: إما أن يكون له في نفس العداوة فعل، أو أن يكون في سبب العداوة، ولا يجوز أن يكون له في فعل العداوة صنع؛ لأنه فعلهم، ولا في سبب العداوة - أيضاً - لأن سببه الاختلاف، والاختلاف فعلهم - أيضاً - فإذا بطل أن يكون له في واحد من هذين صنع؛ دل أن له ذلك من الوجه الآخر، وهو أن خلق فعل العداوة وسبب العداوة منهم، وبالله التوفيق والعصمة.
فإن قيل: ذكر هاهنا أنه تعالى ألقى بينهم العداوة والبغضاء، وذكر في آية أخرى أن بعضهم أولياء بعض بقوله - تعالى -:
{ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [المائدة: 51] كيف يجمع بينهما؟!:
قيل: { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } في أصل الدين وهو الكفر، وبينهم عداوة؛ لاختلاف الأهواء والمذاهب، والله أعلم.
وفي الآية دلالة الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء، ولو كانوا على مذهب واحد، ولم يكن بينهم اختلاف وعداوة - لكان ذلك عليه أشد، وفي المقام بينهم أصعب، لكن مَنَّ عليه بالاختلاف فيما بينهم؛ لما جعل الاختلاف والتنازع سبب الفشل؛ كقوله - تعالى -:
{ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ... } الآية [الأنفال: 46].
وقوله - عز وجل -: { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ }.
يحتمل وجهين:
يحتمل: كلما أرادوا مكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا أمرهم على قتله، أطلع الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - على ذلك؛ حتى لم يقدروا على مكره.
والثاني: كلما انتصبوا للحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه، فرق الله شملهم، وجعلهم بحيث لا يجتمعون على ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً }.
يحتمل وجهين - أيضاً -:
يحتمل: السعي بالفساد على حقيقة المشي على الأقدام، وهو ما كانوا يسعون في نصب الحرب مع المؤمنين، والاتصال بغيرهم من الكفرة، والاستعانة بهم؛ فذلك هو السعي في الأرض بالفساد.
والثاني: ما كتموا من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وحرفوا ما في كتبهم من أعلام نبوته وآيات رسالته، ودعوا الناس إلى غير ما نزل فيه؛ وذلك سعي في الأرض بالفساد، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }.
لأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى به.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ }.
عامل الله - عز وجل - خلقه معاملة أكرم الأكرمين؛ حيث وعد لهم المغفرة، وتكفير ما ارتكبوا في حال الكفر، وقولهم في الله من القبيح الوَخْش؛ لو آمنوا واتقوا الذي قالوا في الله؛ وهو كما قال الله:
{ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38]: وذلك - والله أعلم - أنه لما تاب ورجع عن صنيعه يرجع عن جميع ما كان منه، ويندم على ذلك، ويتمنى أن يكون ما كان منه في تلك الحال من الشر: خيراً؛ فهو كقوله - تعالى -: { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70]؛ لأنهم يندمون على تلك السيئات التي كانت منهم، ويتمنون أن يكون الذي كان منهم في تلك الحال خيراً لا شرّاً، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ }.
يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، وبما أنزل إليهم من القرآن - لأكلوا من كذا مما ذكر.
ويحتمل: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ }: على ما أنزل، ورجعوا عما حرفوا فيها وغيروه وكتموه من نعت [نبينا] محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، وما فيها من الأحكام - لكان لهم ما ذكر، والله أعلم.
وذلك أنهم كانوا يخافون الضيق إذا أسلموا وهو - والله أعلم - قوله:
{ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } [القصص: 57] فأخبر الله - عز وجل - أنهم لو آمنوا واتقوا الشرك، لوسع عليهم العيش.
وقوله - عز وجل -: { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }.
ليس على حقيقة الأكل؛ ولكن يخرج على المبالغة في الوصف والذكر؛ كما يقال: فلان من قرن رأسه إلى قدمه في نعمة: ليس على حقيقة ما وصف؛ ولكن على المبالغة في الوصف بالسعة.
ويحتمل: أن يكون على حقيقة الأكل: أما ما يخرج من تحت الأرجل: فهو ما يخرج من الأرض من المأكول والمشروب، ومن فوقهم: من الثمار والفواكه يخرج من الأشجار.
ويحتمل: ما ذكر { مِن فَوْقِهِمْ }: وهو الجبال، و{ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }: الأرض، إخبار أن يكون لهم نزل الجبل والسهل جميعاً.
وقيل: { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ }، أي: أرسل الله عليهم مدراراً، { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }: تخرج الأرض بركتها، وتنبت لهم الثمرة.
وقال قتادة: لأعطتهم الأرض نباتها، والسماء بركتها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ }.
قيل فيه بوجهين:
قيل: { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } من أسلم منهم.
وقيل: منهم أمة مقتصدة على كتاب الله لم يحرفوه، ولا غيروه، ولا كتموا شيئاً، ولا سعوا في الأرض بالفساد على ما عمل أكثرهم من التحريف والتغيير، والله أعلم.