خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
١٠٤
وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١٠٥
ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٠٦
وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
١٠٧
وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٠٨
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ }.
قيل: بينات من ربكم.
وقيل البصائر الهدى، بصائر في قلوبهم، وليست ببصائر الرءوس وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقيل: بصائر، أي: بيان، وهو واحد.
وقيل: بصائر شواهد، أي قد جاءكم من الله شواهد تدلكم على ألوهيته، وهو كقوله تعالى:
{ بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة: 14]، أي: بل الإنسان من نفسه بصيرة، أي: شاهدة؛ فشهدت كل جارحة منهم على وحدانية الله وألوهيته.
ألا ترى أنه قال:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24]؛ هذا - والله أعلم - لأنهم كانوا يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام، ويقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]؛ فيقول: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } من الآيات والرسل ما لو اتبعتموهم، لكانوا لكم شفعاء عند الله.
والثاني: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ }: ما لو تفكروا وتدبروا ونظروا فيها، لعرفوا أنها بصائر من الله؛ لأن البشر أنشئوا بحيث ينظرون في العجيب من الأشياء؛ فكانوا على أمرين: منهم من نظر وتفكر وعرف أنها بصائر، لكنه عاند وكابر ولم يعمل بها، ومنهم من ترك النظر فيها؛ فعمي عنها، ما لو تفكروا ونظروا لتبين لهم.
وقوله - عز وجل -: { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا }.
أي: أبصر الحق والهدى وعمل به، فلنفسه عمل، ومن أبصر وعمي عنها - أي: ترك العمل - فعليها ترك؛ كقوله:
{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46].
فإن قيل: ذكر في آية أخرى:
{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42]، أخبر أن من هلك هلك عن بينة، ومن حي حي عن بينة، وهاهنا يقول: { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا }: ذكر عمي عليها؛ فكيف وجه التوفيق [بينهما]؟!
قيل: يحتمل قوله: { عَمِيَ } بعد ما تبين له، فترك العمل به؛ فعليها ذلك؛ لأنه أبصرها، وعرف أنها من الله، لكنه عاندها وكابرها.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }.
أي: قد جاءكم بصائر من ربكم، فليس علينا إلا التبليغ؛ كقوله:
{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [المائدة: 99].
وقوله - عز وجل -: { وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ }.
أي: نردّها في الوجوه التي تتبين لقوم يطلبون البيان.
أو نقول { نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ }، أي: نضع كل آية ونصرفها إلى الوجوه التي تكون بالخلق إليها حاجة.
وقوله - عز وجل -: { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ }.
فيه لغات: درست، ودارست. ودرست: قرأت، ودارست: تعلمت.
وقيل: دارست أهل الكتاب: جادلتهم، ودرست بالجزم، [قيل: تعاونت] فهذا الاختلاف فيه؛ لاختلاف قول كان من الكفرة لرسول الله؛ منهم من يقول: [
{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [النحل: 103] فهو تأويل دارست، ومنهم من يقول: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [الأنعام: 25] فهو تأويل قوله: درست، ومنه من يقول]: { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } [سبأ: 43]، وهو تأويل درست؛ فعلى اختلاف أقاويلهم خرجت القراءة.
ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى -: { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [قال بعضهم: لئلا يقولوا درست] فهو صلة قوله: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } [لئلا]؛ يقولوا: درست.
وقال الحسن قوله: { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ }، أي: { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ }؛ ليقولوا درست؛ لأن من قوله: إنه بعث الرسل، وأنزل الكتب؛ ليكون من الكافر قول كفر، ومن المؤمن قول إيمان.
وقوله - عز وجل -: { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ }.
يخرج - والله أعلم - على [معنى] التعجب: يعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن قبح صنيع الكفرة وسوء معاملتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءهم بصائر من ربهم وبينات وحجج، ثم هم بعد هذا كله يستقبلونه بالرد والتكذيب.
وهو على ما قلنا: إن الله ذكر نعمه عليهم بما أنشأ لهم: من الأنعام، والجنات المعروشات، والزرع، والنخيل، وما أخبر عنه، وقد علموا ذلك كله، ثم جعلوا له بعد معرفتهم هذا
{ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 100]، ولا بينة؛ فهو على التعجب أنهم كيف جعلوا له شركاء، وقد علموا أن الذي جعل هذا كله لهم هو الله؟! فعلى ذلك هذه الآية أنهم كيف قذفوه بالدراسة، وقد تبين لهم صدقه، وأنه من عند الله بالآيات والدلائل، وبما كان لا يخط كتابا، ولا شهدوه يختلف إلى من عنده علم ذلك.
وقوله - عز وجل -: { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
أي: لنبينه يعني القرآن، وقيل البصائر التي ذكر لقوم ينتفعون بعلمهم.
وقوله - عز وجل -: { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }.
فإن قيل: ما معنى قوله: { مِن رَّبِّكَ }، وإنما أوحي إليه من ربّه، ويكفي قوله: { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ }؟!
ولكن معناه على الإضمار - والله أعلم - كأنه قال للذي أوحى إليه على يديه: قل { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }، ثم أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه من ربه، أي: اعمل بما أوحى إليك.
ثم الأمر بالعمل يحتمل وجهين:
يحتمل: الأمر بالاعتقاد بذلك.
ويحتمل: نفس العمل، أي: اعمل.
ويشبه أن يكون الأمر بالاتباع ما أوحى إليه صدقاً في الخبر وعدلا في الحكم؛ كقوله:
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115].
قيل: صدقاً في الأخبار، وعدلا في الأحكام؛ فعلى ذلك أمكن أن يكون الأمر بالاتباع اتباع ما أوحي إليه صدقاً في الأخبار، وعدلا في الأحكام، ثم على ما أمر نبيه باتباع ما أوحي إليه وأنزل من ربه أمر أمته كذلك، وهو قوله:
{ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الأعراف: 3] أمرهم باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ونهاهم عن اتباع من اتخذوا من دونه أولياء؛ فعلى ما نهاهم عن اتخاذ أولياء دونه قال في الآية التي أمر رسوله باتباع ما أوحي إليه من ربه؛ فقال: { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }.
وقوله - عز وجل -: { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } وقوله:
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الأعراف: 3] واحد؛ لأنه أمر باتباع ما أوحى إليه من ربه، ونهى أن يتبع دونه أولياء؛ لأنه أخبر أن لا إله إلا هو.
وقوله - عز وجل -: { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ }.
يحتمل: أمره بالإعراض عن المشركين وجوهاً:
يحتمل ألا تكافئهم على أذاهم؛ ولكن اصبر، ويحتمل الأمر بالإعراض عنهم: النهي عن قتالهم؛ كأنه نهى عن قتالهم في وقت.
ويحتمل أن تكون الآية في قوم خاصة، قال: أعرض عنهم؛ فإنهم لا يؤمنون، ولا تقم عليهم الآيات والحجج؛ لما علم منهم أنهم لا يؤمنون، ثم على ما أمر نبيه بالإعراض عنهم أمر المؤمنين - أيضاً - بالإعراض عنهم، وهو قوله:
{ وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [القصص: 55].
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ }.
قالت المعتزلة: المشيئة هاهنا مشيئة قهر وجبر، أي: لو شاء الله لأعجزهم ومنعهم عن الشرك على دفع الابتلاء والامتحان.
وأما عندنا: المشيئة: مشيئة اختيار، والطوع على قيام الابتلاء والامتحان، وبعد: فإن مشيئة الجبر هي خلقه، وقد كانوا جميعاً غير مشركين بالخلقة؛ فلا معنى لتأويلهم الذي تأولوا في المشيئة.
ثم لا يحتمل أن يكون قوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ } مشيئة قهر وجبر؛ لأنه لا يكون في حال الجبر والقهر إيمان ولا كفر؛ إنما يكون ذلك في حال الاختيار والطوع؛ لأن الجبر والقهر يمنع من أن يكون له فعل حقيقة؛ بل يتحول الفعل عنه ويسقط، ويثبت للذي جبر وقهر؛ وذلك بعيد؛ فدل أنه ما ذكرنا، وبالله الرشاد.
وفي قوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ } دلالة أن طريق الإسلام الإفضال والإنعام، ولله أن يخص به من كان أهلا للإفضال والإنعام باللطائف التي عنده، ويحرم [بعضاً] ذلك، وله أن يجعل بعضهم أهلا لذلك؛ إفضالا منه، ولا يجعل البعض؛ عدلا منه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }.
أي: لم يؤخذ عليك حفظ أعمالهم، أو لا تسأل أنت عن صنيعهم؛ إنما عليك التبليغ، وهو كقوله:
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 52]، [و] كقوله - تعالى -: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54]، ونحوه.
وقيل: الحفيظ والوكيل: واحد، وقيل: الوكيل هو الكفيل، وقد ذكرناه في غير موضع فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }.
نهانا الله - عز وجل - عن سبّ من يستحق السبّ؛ مخافة سبّ من لا يستحق [السبّ].
فإن قيل: كيف نهانا عن سب من يستحق السب؛ مخافة سبّ من لا يستحق، وقد أمرنا بقتالهم، وإذا قاتلناهم قاتلونا، [وقتل] المؤمن بغير حق من المناكير، وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة والتلاوة عليهم، وإن كانوا يستقبلونه بالتكذيب؟!
قيل: إن السبّ لأولئك [مباح] غير مفروض، والقتال معهم فرض، وكذلك التبليغ فرض يبلغ إليهم، وإن كانوا ينكرون ما يبلغهم، وكذلك القتال نقاتلهم، وإن كان في ذلك إهلاك أنفسنا وأصله أن ما خرج الأمر به مخرج الإباحة فإنه ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان الأمر به أمر فرض ولزوم لا ينهى عن المتولد منه والحادث.
ويجوز أن يستدل بهذا على تأييد مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - في قوله: إن [من] قطع يد آخر بقصاص فمات في ذلك أخذ بالدية، وإذا قطع اليد بحدّ لزمه فمات، لم يؤخذ بها؛ لأنه أبيح له قطع يده، والقصاص لم يفرض عليه، وفي الحدّ، تلزم إقامة الحد لله، فإذا كان قيامه بفعل أبيح له الفعل، ينهى عما يتولد منه، ويؤخذ به؛ وإذا كان قيامه بفعل فرض عليه، لم يؤخذ بما تولد منه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الأمر بالختان إذا تولد من ذلك الموت؛ لأنه أمر بإقامة السنة، وكذلك الأمر بالحجامة؛ لأنه يفرض عليه الحجامة في حال إذا خاف عليه الهلاك؛ إذا لم يحتجم وأما الأمر بالدق وغيره مما يشاكله: فهو - أمر إباحة، لا أمر إلزام؛ لذلك ضمن ما تولد منه؛ فعلى ذلك السبّ الذي يسب آلهتهم إذا حملهم ذلك على سبّ الله - عز وجل - وسبّ رسوله لا يسبون، وإن كانوا مستحقين لذلك؛ لأنه قد ينهى الرجل أن يعود نفسه السبّ؛ فعلى ذلك يجوز أن ينهوا عن سبّ آلهتهم؛ مخافة الاعتياد لذلك نهوا عن سبّ آلهتهم.
ثم ذكر في القصّة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسبون آلهتهم فيسبون الله؛ عدوا بغير علم؛ وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم بسوء؛ فقالوا: لتنتهين عن ذلك أو لنهجون ربك.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - وذلك حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء: 98] الآية، فقالوا عند ذلك ما قالوا؛ فنزل: { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ }، ولكن لا ندري كيف كانت القصة، ولكن فيه ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }.
قال الكيساني وأبو عوسجة: { عَدْواً }: من الاعتداء، وهو مجاوزة الحد.
وقال أبو عمرو: (عدوٌ): بالرفع، وقال: إنما العدو من عدو الرجلين؛ وكذلك قال في يونس:
{ وَعَدْواً } [يونس: 90].
وقيل: فلما نزل قوله: { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ } الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لأصحابه]: "لا تسبوا ربكم فأمسكوا عن سبّ آلهتهم".
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ }.
قال أبو بكر الكيساني: إن صلة قوله: { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان؛ رجاء أن تقرب عبادتهم إياها إلى الله؛ لا أنهم كانوا يعبدونها ويتخذونها آلهة دون الله؛ فإذا سبّوا معبودهم فكأنهم سبوا الله عدواً بغير علم؛ إذ العبادة في الحقيقة لله، فيرجع سبّهم إياها إلى الله؛ لذلك كان معنى السبّ فقال؛ فعلى ذلك رجع قوله: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ }؛ حتى امتنعوا عن سبّ [الله]، فذلك الذي زين عليهم.
وقال الحسن: قوله: { زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ }، أي: زينا عليهم أعمالهم فيما أمروا به، وفرض ويجب عليهم أن يفعلوا، لا فيما لا يفرض ولا يحل لهم أن يفعلوا.
وكذلك يقول جعفر بن حرب والكعبي وغيرهما من المعتزلة: إنه زين عليهم عملهم الذي فرض عليهم أن يعملوا ويأتوا به، وأما ما لا ينبغي أن يقولوا فلا؛ كقوله:
{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } [الحجرات: 7] الآية ذكر في الإيمان: التزيين، وفي الكفر: التكريه، ويقولون: إنه أضاف التزيين إلى الشيطان بقوله: { زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [الأنفال: 48] وقوله: { ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } [محمد: 25] والشيطان يزين لهم المعاصي والفسوق؛ فلا يحتمل أن يكون الله يزين لهم ما يزين الشيطان؛ فدل أنه إنما يزين لهم ما يؤمرون به ويفرض عليهم، ولكن يضاف إليه التزيين ما أضيف إليه حرف الإضلال والإغواء.
وأما عندنا: فالتزيين على وجهين:
تزيين في العقول، وهو تحسين من طريق الآيات والبراهين، فذلك لا يحتمل فعل الكفر والضلال أن يكون مزيناً من جهة الآيات والحجج.
والثاني: تزيين في الطباع: بالشهوات، والأماني، وفعل كل أحد مزين بالشهوة والحاجة التي مكنت فيه، ولا شك أن كل كافر لو سئل عن فعله الكفر والضلال؛ فيقول: هذا الذين زين لي، وليس إضافة فعل التزيين إلى الله بأكبر وأبعد من إضافة الإضلال والإغواء، وقد ذكرنا معنى إضافة الإضلال والإغواء إليه في غير موضع؛ فعلى ذلك التزيين.
ويقولون - أيضاً -: إن التزيين: تزيين وعد وثواب؛ فالكافر متى يؤمن بالوعد في الآخرة والثواب فيها، وهو ليس يؤمن [بالآخرة]، فهذا بعيد.
ولا يحتمل ما قال الكيساني - أيضاً - لأنه لا كل الكفرة كانوا يعبدون الأصنام؛ ليقربهم ذلك إلى الله زلفى؛ بل أكثرهم لا [يعرفون] أن لهم خالقاً وربّاً.
وتحتمل إضافة التزيين إلى الشيطان على جهة التمني والتشهي؛ كقوله:
{ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } [النساء: 119] وإضافته إلى الله على القدرة عليه والسلطان، أو أن يخلق أعمالهم مزينة عندهم مسولة. وإضافة فعل الضلال والغواية إلى الشيطان على الدعاء إليه والترغيب فيه، وإضافته إلى الله على أن يخلق فعل الضلال منهم.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ }.
قد ذكرناه.
{ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
في جزيل الثواب، أو في أليم العذاب؛ فهو على الوعيد.