خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ
٥٠
وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٥١
وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ
٥٣
-الأنعام

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ }.
يعلم بالإحاطة أن هذا ونحوه خرج على الجواب لأسئلة كانت منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لسنا نعلم ما كانت تلك الأسئلة [التي] كانت من أولئك، حتى كان هذا جواباً لهم، فلا نفسر، ولكن نقف؛ مخافة الشهادة على الله.
ويحتمل: أن يكون جواباً لما ذكر في آية أخرى، وهو قولهم:
{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ } [الإسراء: 90-91]، فقال: عند ذلك: { لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ }، [وقال:] { وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } جواباً لسؤال [عن] وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب.
وقوله - عز وجل -: { وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } جواب لقولهم:
{ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ } [الإسراء: 93] فقال عند ذلك: لا أقول: إني أعلم الغيب؛ حتى أعلم وقت نزول العذاب أو قيام الساعة، ولا أقول: إني ملك حتى أرقى في السماء.
وقوله: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }.
أي: تعرفون أنتم أنه لا يستوي الأعمى، أي: من عمي بصره، والبصير: أي: من لم يعم بصره، فكيف لا تعرفون أنه لا يستوي من عمي عن الآيات ومن لم يعم عنها؟!
أو نقول: إذا لم يستو الأعمى والبصير، كيف يستوي من يتعامى عن الحق ومن لم يتعام؟! { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } أنهما لا يستويان.
وقوله - عز وجل -: { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }.
في آيات الله وما ذكركم.
أو نقول: { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } في وعظكم، بالله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } [الأنعام: 51].
اختلف فيه:
قال بعضهم: هو صلة قوله: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ... } الآية، أيئس الكفرة عما سألوا من الأشياء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالإنذار الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم وهم المؤمنون، أي: يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، وأن ليس لهم [ولي] يدفع عنهم ما يحل بهم، ولا شفيع يسأل لهم ما لم يعطوا.
وجائز أن يكون تخصيص الأمر بإنذار المؤمنين لما كان الإنذار ينفعهم ولا ينفع غيرهم، وليس فيه لا ينذر غيرهم؛ وهو كقوله:
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] ليس فيه أنه لا ينذر من لم يتبع الذكر ولا خشي الرحمن ولكن أنبأ أنه إنما ينفع هؤلاء؛ كقوله تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55] أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع أولئك، ينذر الفريقين: من اتبع، ومن لم يتبع، ومن انتفع، ومن لم ينتفع، ويكون قوله: { لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ }، يعني: ليس لأولئك أولياء ولا شفعاء؛ لأنهم يقولون: { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] ونحوه أخبر أن ليس لهم ولي ولا شفيع دونه.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ... }.
يذكر في بعض القصة أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسبقون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلسون قريباً منه، فيجيء أشراف القوم وساداتهم، وقد أخذ أولئك المجلس فيجلس هؤلاء ناحية، فقالوا: نحن نجيء فنجلس ناحية، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا سادات قومك وأشرافهم، فلو أدنيتنا منك [في] المجلس، فهمّ أن يفعل ذلك، فأنزل الله هذه الآية يعاتب نبيه صلى الله عليه وسلم [بقوله]: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ ... } الآية.
وإلى هذا يذهب عامة أهل التأويل، لكنه بعيد؛ إذ ينسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوحش فعل وأفحشه ما لو كان فيه إسقاط نبوته ورسالته؛ إذ لا يحتمل أن يكون [النبي] صلى الله عليه وسلم يقرب أعداءه ويدني مجلسهم منه، ويبعد الأولياء، هذا لا يفعله سفيه فضلا أن يفعله رسول الله المصطفى على جميع بريته، أو يخطر بباله شيء من ذلك، وكان فيه ما يجد الكفرة فيه مطعنا يقولون: يدعو الناس إلى التوحيد والإيمان به والاتباع له، فإذا فعلوا ذلك وأجابوه طردهم وأبعد مجلسهم [منه]، هذا لعمري مدفوع في عقل كل عاقل، ولكن إن كان فجائز أن يكون منهم طلب ذلك طلبوا منه أن يدني مجلسهم ويبعد أولئك؛ هذا يحتمل، وأما أن يهم أن يفعل ذلك أو خطر بباله شيء من ذلك فلا يحتمل.
وجائز أن يكون هذا من الله ابتداء تأديباً وتعليماً؛ يعلم رسوله صحبة أصحابه ومعاملته معهم؛ كقوله:
{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } [الكهف: 28]، ونهاه أن يمد عينه إلى ما متع أولئك؛ كقوله: { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... } الآية [طه: 131] ويخبره عن عظيم قدرهم عند الله.
وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي والحظر، بل العصمة تزيد في النهي والزجر، وأخبر أن ليس عليه من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فإنما عليك البلاغ وعليهم الإجابة؛ وهو كقوله:
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور: 54].
وقوله - عز وجل -: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ }.
يشبه أن يكونوا يجتمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل غداة ومساء، فيسمعون منه، ثم يفترقون على ما عليه أمر الناس من الاجتماع في كل غداة ومساء عند الفقهاء وأهل العلم.
وجائز أن يكون ذكر الغداة والعشي كناية عن الليل كله وعن النهار جملة؛ كقوله:
{ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 1-2] ليس يريد بـ { وَٱلضُّحَىٰ } [الضحى: 1] الضحوة خاصة ولكن النهار كله.
ألا ترى أنه قال:
{ وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى: 2] ذكر الليل دل أنه كان الضحى كناية عن النهار جملة؛ فعلى ذلك الغداة والعشي يجوز أن يكون كناية عن الليل والنهار جملة، والله أعلم.
وجائز أن يكون أصحاب الحرف والمكاسب، لا يتفرغون للاجتماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستماع منه في عامة النهار، ولكن يجتمعون إليه ويستمعون منه بالغداة والعشي، فكان ذكر الغداة والعشي لذلك أو لما ذكرنا.
وجائز أن يكون المراد بذكر الغداة والعشي صلاة الغداة، وصلاة العشاء؛ يقول: لا تطرد من يشهد هاتين الصلاتين، وإنما [كان] يشهدهما أهل الإيمان، وأما أهل النفاق: فإنهم [كانوا] لا يشهدون هاتين الصلاتين، ويحتمل [غير] ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }.
[الظلم] على وجوه: ظلم كفر، وظلم شرك، وظلم يكون بدونه، وهو أن يمنع أحدا حقه أو أخذ منه حقا بغير حق؛ فهو كله ظلم.
والظلم - هاهنا والله أعلم -: يشبه أن يكون هو وضع الحكمة في غير أهلها؛ لأنه لو كان منه ما ذكر من [طرد أولئك وإدناء أولئك] لم يكن أهلا للحكمة، ويجوز أن يوصف واضع الحكمة في غير موضعها بالظلم؛ على ما روي في الخبر:
"أن من وضع الحكمة في غير أهلها فقد ظلمها، ومن منعها عن أهلها فقد ظلمهم" .
وقوله - عز وجل -: { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ }.
قوله: { وَكَذٰلِكَ } لا يتكلم إلا على أمر سبق، فهو - والله أعلم - يحتمل أن يقول لما قالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء الأعبد من قومك، أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك: { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي: كما فضلتكم على هؤلاء في أمر الدنيا فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدين، ويكونون هم المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدنين مجلسهم إليه، وأنتم أتباعهم في أمر الدين، وإن كانوا هم أتباعكم في أمر الدنيا؛ فكذلك امتحان بعضهم ببعض.
ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يقال: كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة؛ كقوله:
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35].
وكقوله:
{ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168].
وقوله:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ... } الآية [البقرة: 155].
فعلى ذلك له أن يمتحن بعضكم ببعض.
وأشد المحن أن يؤمر المتبوع ومن يرى لنفسه فضلا بالخضوع للتابع ومن هو دونه عنده، يشتد ذلك عليه ويتعذر؛ لما كانوا يرون هم لأنفسهم الفضل والمنزلة في أمر الدنيا، فظنوا أنهم كذلك يكونون في أمر الدين؛ وعلى ذلك يخرج امتحانه إبليس بالسجود لآدم لما رأى لنفسه فضلا عليه فقال:
{ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف: 12] ولم ير الخضوع لمن دونه عدلا وحكمة، فصار ما صار؛ فعلى ذلك هؤلاء لم يروا أولئك الضعفة أن يكونوا متبوعين عدلا وحكمة، وظنوا أنهم لما كانوا مفضلين في أمر الدنيا، وكان لهؤلاء إليهم حاجة - يكونون في أمر الدين كذلك، ويقولون: { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [الأحقاف: 11] ونحوه من الكلام.
وقوله - عز وجل -: { لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ }.
قال بعضهم: هو موصول بالأول بقوله: { فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ } يقول الكافر قول الكفر والمؤمن قول الإيمان. ثم ابتدأ فقال: { أَهَـٰؤُلاۤءِ } أي: يقول الكفرة { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } ليس بمفصول من قوله { لِّيَقُولوۤاْ } ولكن موصول به { لِّيَقُولوۤاْ } يعني الكفرة { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ }.
ثم يحتمل قوله { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } بالحظ بالتقريب والإدناء في المجلس وجعلهم متبوعين من بيننا بعد ما كانوا أتباعاً لنا فقال عند ذلك { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ } أي: عرف هؤلاء نعمة الله تعالى، ووجهوا شكر نعمه إليه وأنتم وجهتم شكر نعمه إلى غيره بعد ما عرفتم أنه هو المنعم عليكم والمسدي إليكم.