خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤
قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ
١٥
قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
١٦
ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
١٧
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله عز وجل: { أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: أنظره إلى النفخة الأولى؛ لئلا يذوق الموت؛ فيصل حياة الدنيا بحياة الآخرة، وهو ما ذكر في آية أخرى:
{ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } [الحجر: 37-38].
وقال بعضهم: أنظره إلى يوم البعث.
وظاهر ما خرج من الخطاب أن يكون أنظره إلى يوم البعث؛ [لأنه سأل ربه أن ينظره إلى يوم البعث حيث] قال: { أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }، فقال: { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } خرج ذلك جواباً لسؤاله، وما ذكر من الوقت المعلوم.
وفي آية أخرى يجيء أن يكون هو ذلك اليوم.
وقال غيره: أنظره ولم يبين له ذلك الوقت الذي أنظره إلى ذلك الوقت؛ حتى يكون أبداً على خوف ووجل؛ ألا ترى أنه قال:
{ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ } [الأنفال: 48] لو كان الوقت الذي أنظره معلوماً عنده، لكان لا يخاف الهلاك بدون ذلك الوقت؛ دل أنه كان غير معلوم عنده.
وقوله عز وجل: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.
قال الحسن: قوله: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي }، أي: بما لعنتني.
والإغواء هو اللعن كقوله
{ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } [الحجر: 37] أى: من الملعونين؛ فيعني ذلك قوله { أَغْوَيْتَنِي } أي: لعنتني. وقال أبو بكر الكيساني: أضاف الإغواء إلى نفسه؛ لما كان سبب ذلك منه، وهو الأمر الذي أمره بالسجود لآدم والخضوع له.
ويجوز أن يضاف إليه ذلك؛ لما كان منه السبب نحو قوله:
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } [التوبة: 49] فطلب منه الإذن بالقعود، ولا تكلفني بما لا أقوم فتفتنني بذلك، وقال: إنما أضاف ذلك إليه؛ لما كان منه سبب ذلك الافتتان؛ فعلى ذلك هذا.
وقال بعض المعتزلة: هذا قول إبليس { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } وقد كذب عدو الله لم يغوه الله؛ فيقال لهم فإن كان إبليس عدو الله قد كذب في قوله { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } فيما أغويتني فتقولون بأن نوحاً - صلوات الله [عليه] - قد كذب حيث قال:
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [هود: 34]، أضاف الإغواء إليه؛ دل هذا على أن إبليس لم يكذب بإضافة الإغواء إلى الله.
ولكن عندنا أنه أضاف الإغواء إلى نفسه؛ لما خلق فيه فعل الغواية والضلال، على ما ذكرنا في غير موضع، ليس كما قال هؤلاء: إنه إضيف إليه لمكان ما كان منه سبب ذلك؛ لأنه لو جاز أن يضاف فعل الإغواء إليه لسبب الإغواء لجاز أن يضاف ذلك إلى الرسل والأنبياء؛ لأنه كان منهم الأمر لقومهم والدعاء إلى توحيد الله، ثم كذبوا في ذلك؛ فكان سبب إغواء أولئك هم الرسل، وذلك بعيد.
وكذلك لو كان الإغواء هو اللعن، لكان كل لاعن عليه فهو مغويه.
وقال بعضهم: { أَغْوَيْتَنِي } أي: خذلتني.
والوجه فيه: ما ذكرنا: أنه خلق فيه فعل الغواية والضلال، وكذلك من كل كافر خذله؛ لما علم منه أنه يختار الغواية والضلال.
وقوله عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } [هو المكث] ليس على حقيقة القعود، ولكن على المنع عن السلوك في الطريق أو على التلبيس عليهم الطريق المستقيم والستر عليهم؛ لأن من قعد في الطريق منع الناس عن السلوك فيه.
وقوله عز وجل: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [الأعراف: 17] قال: الحسن: { مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قبل الآخرة؛ تكذيباً بالبعث والجنة والنار، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } قال: من قبل دنياهم يزينها لهم ويشهيها إليهم، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } قال: من قبل الحسنات يثبطهم عنها، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } قال: من قبل السيئات يأمرهم بها، ويحثهم عليها، ويزينها في أعينهم.
وعن مجاهد: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } قال: من حيث يبصرون { وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِم } من حيث لا يبصرون.
وقيل { مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من قبل آخرتهم، فلأخبرنهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث، على ما ذكر الحسن.
{ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من قبل دنياهم: آمرهم بجمع الأموال فيها لمن بعدهم من ذراريهم وأخوف عليهم الضيعة، فلا يصلون من أموالهم زكاتها، ولا يعطون لها حقها، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } من قبل دينهم، فأزين لكل قوم ما كانوا يعبدون، فإن كانوا على ضلالة زينتها لهم، وإن كانوا على هدى شبهته عليهم، حتى أخرجهم منه، { وَعَن شَمَآئِلِهِم } من قبل اللذات والشهوات فأزينها لهم.
هذا الذي ذكر أهل التأويل يحتمل.
ثم ذكر الأمام والخلف وعن أيمان وعن شمال، ولم يذكر فوق ولا تحت؛ فيحتمل أن يدخل ما فوق وما تحت بذكر أمام واليمين والشمال والخلف؛ كقوله تعالى:
{ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [سبأ: 9] دخل "ما فوق" بذكر ما بين أيديهم، ودخل "ما تحت" بذكر ما خلفهم؛ فعلى ذلك هذا يدخل "ما تحت" و "ما فوق" بذكر ما ذكر؛ فيصير كأنه قال: فيأتيكم من كل وجه.
ويحتمل أنه لم يذكر هذا؛ لما أنه لا سلطان له على منع الأرزاق والبركات؛ لأن أرزاق الخلق والبركات مما ينزل من السماء من المطر، ويخرج من الأرض من النبات؛ فليس له سلطان يمنع إنزال المطر وإخراج النبات من الأرض، وله سلطان على غير ذلك.
أو يكون لما يشغلهم ويشهيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من اللذات والشهوات لما [إذا رأى أشياء أعجبته] أتبع النظر إليها واحداً بعد [واحد] من أمام ووراء ويمين وشمال، ولا كذلك من تحت ولا من فوق أو أن يكون؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه لما تلا هذه الآية قال: [إن] الله منعه من أن يأتيهم من فوقهم، ولو كان ذلك لما نجا أحد، فأعمالهم تصعد إلى الله، ورحمته تنزل عليهم.
وقال قتادة: أتاك اللعين من كل نحو يا بن آدم، غير أنه لا يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة ربك؛ إنما تأتيك الرحمة من فوقك.
والذي ذكرنا أنه على التمثيل أنه يأتيه من كل جانب أشبه.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِم } يخرج على وجهين:
أحدهما: ليس على إرادة "بين" و "خلف" و "أيمان" و "شمال" ولكن على إرادة الجهات كلها؛ كأنه يقول: لآتينهم من كل جهة.
والثاني: ما ذكر الحسن وأهل التأويل: { مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ }: الآخرة تكذيباً بها، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ }: الدنيا تزييناً بها عليهم، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ }: الحسنات، { وَعَن شَمَآئِلِهِم }: السيئات.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }.
هذا من عدو الله ظن ظنه لا قاله حقيقة، لكن الله - عز وجل - أخبر أنه قد صدق ظنه بقوله:
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [سبأ: 20].