خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٤٢
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٤٣
وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ كَافِرُونَ
٤٥
-الأعراف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }.
قال أبو بكر الكيساني: قوله: { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ }: ليس من جنس ما ذكر من قوله: { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }؛ لكنه صلة قوله:
{ يَابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ } [الأعراف: 35]، يقول فيما تقدم ذكره: { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }.
وأما عندنا: فإنه يستقيم أن يجعل صلة ما تقدم، أي: لا نكلف نفساً من الأعمال الصالحات إلا وسعها، بل نكلفها دون وسعها ودون طاقتها { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
وقال الحسن: قوله: { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً }: إلا ما يسع ويحتمل، وهو صلة قوله: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا }، يقول: لا يكلف نفساً إلا ما يسع ويحتمل، لا ما لا يسع ولا يحتمل.
قوله - عز وجل -: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ }.
قال القتبي: الغل: الحسد والعداوة.
وقيل: الغل والغش واحد، وهو ما يضمر بعضهم لبعض من العداوة والحقد.
وقيل: الغل: الحقد.
ثم اختلف فيه:
قال بعضهم: قوله: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ }: في الدنيا، ينزع الله - عز وجل - من قلوبهم الغل، يعني: [من] قلوب المؤمنين، ويجعلهم إخواناً بالإيمان؛ كقوله:
{ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [آل عمران: 103] الآية، أخبر أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم بالإيمان الذي أكرمهم به؛ حتى صاروا إخواناً بعد ما كانوا أعداء.
قال الحسن: ليس في قلوب أهل الجنة الغل والحسد؛ إذ هما يهمان ويحزنان؛ إنما فيها الحب.
[و] قال بعضهم: هذا في الآخرة، ينزع الله - تعالى - من قلوبهم الغل الذي كان فيما بينهم في الدنيا، ويصيرون جميعاً إخواناً؛ كقوله:
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } [الحجر: 47].
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: [إني] لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله - تعالى -:
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ } [الحجر: 47].
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نزلت في علي وأبي بكر [وعمر] وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وعمار وسلمان وأبي ذر - رضوان الله عليهم أجمعين - فينزع في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في الدنيا من العداوة والقتل الذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر الذي اختلفوا فيه، فيدخلون الجنة؛ هذا - والله أعلم - لأن الذي كان بينهم من الاختلاف والقتال كان دنيويّاً لم يكن؛ بسبب الدين، فذلك يرتفع في الآخرة ويزول، وأما العداوة التي هي بيننا وبين الكفرة: فهي لا تزول أبداً في الدنيا والآخرة؛ لأنها عداوة الدين والمذهب، فذلك لا يرتفع أبداً.
ويشبه أن يكون قوله: { وَنَزَعْنَا } على ابتداء النزع، لا على أن كانوا فيه؛ كقوله - تعالى -:
{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة: 257] على ابتداء: المنع، أي: لولا إخراجه إياهم من ذلك، وإلا كانوا فيه؛ فعلى ذلك قوله: { وَنَزَعْنَا } أي: لم نجعل في قلوبهم الغل رأساً، ولو تركهم على ما هم عليه لكان فيهم ذلك.
وفيه دلالة أن لله في فعل العباد صنعاً؛ لأن الغش [والغل] من فعل العباد يذمون على ذلك. ثم أخبر أنه نزع ذلك من قلوبهم، واستأدى منهم الشكر بذلك بقوله:
{ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا... } الآية.
وقد ذمّ من طلب الحمد على ما [لم] يفعل؛ فدل طلب الحمد منهم على أن له فيه صنعاً؛ بذلك طلب منهم الحمد، والله الموفق.
وقوله - عز وجل -: { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ }.
ذكر هذا - والله أعلم - لما علم عز وجل من طباع الخلق الرغبة في هذه الأنهار الجارية في الدنيا، فيما يقع عليها الأبصار، فرغبهم في الآخرة بما كانت طباعهم وأنفسهم تميل إلى ذلك في الدنيا؛ ليرغبوا فيما أمر وينتهوا عما نهى، وكذلك جميع ما ذكر في القرآن من القصور والخيام والجواري والغلمان والأكواب والأباريق، وغير ذلك مما ترغب طباع الخلق في ذلك في الدنيا وتميل أنفسهم إلى ذلك؛ وأعدها لهم في الآخرة ترغيباً منه لهم في ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ }، قال الحسن وغيره: هدانا: دلنا لهذا.
{ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ }.
وأما عندنا: ليس هو هداية الدلالة والبيان؛ ولكن الهداية التي أكرمهم الله بها بفضله ولطفه، وهي توفيقه إياهم إلى الهدى؛ لأنه خرج مخرج الامتنان والفضل، ولو كان دلالة وبياناً لكان لا معنى لتلك المنة وذلك الفضل؛ لأن عليه الدلالة والبيان.
والثاني: [أنه] لو كان على الدلالة والبيان لكان ذلك على كل أحد: على الرسل وغيرهم؛ لأن عليهم البيان والدلالة، فدل أنه ليس على الدلالة والبيان، ولكن غيره.
والثالث: أنه لا أحد عند نفسه أنه يزيغ ويضل وقت ما هداه الله ووفقه. وقد يجوز أن يكون ذلك في الدلالة والبيان؛ دلّ أنه لم يحتمل ما قال أولئك من الدلالة والبيان، والله الموفق.
وقال بعض الناس: إن المعتزلة خالفوا الله عما أخبر، وخالفوا الرسل عما أخبروا عن الله تعالى، وخالفوا أهل الجنة والنار، وخالفوا إبليس:
أما مخالفتهم الله فقوله: { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ } ونحوه.
أما مخالفتهم الرسل فقوله:
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } [هود: 34] الآية، وقول أهل النار قالوا: { لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } [إبراهيم: 21] وقول إبليس: { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } [الأعراف: 16]: هو أعلم بالله من المعتزلة.
وقوله - عز وجل -: { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ }.
يحتمل وجوهاً: يحتمل جاءوا بالحق، أي: بالدين الذي هو حق، أو جاءوا بالأعمال التي من عمل بها كان صواباً ورشداً، وكل حق هو صواب ورشد، ويحتمل جاءت رسل ربنا بالحق، أي: بالصدق ونحوه.
{ بِٱلْحَقِّ }: له وجهان:
أحدهما: بالحق الذي استحقه الله على عباده.
والثاني: أنهم جاءوا بالذي هو حق في العقول وصواب.
وقوله - عز وجل -: { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ }.
قوله: { تِلْكُمُ }: إنما يتكلم عن غائب، وهم فيها، لكن تأويله - والله أعلم - أن تلكم الجنة التي كنتم وعدتم في الدنيا وأخبرتم عنها هذه.
{ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }. أي: أورثكم [أعمالكم].
وفيه دلالة أن الإيمان من جملة أعمالهم؛ حيث قال: أورثتموها بما كنتم تعملون، وإنما يورث ذلك بالإيمان وسائر الأعمال [بل] إنما يصح بالإيمان، ذكر أنهم أورثوا الجنة بما عملوا، وإن كانوا ينالونها بفضل الله جزاء وشكراً؛ لقولهم الذي قالوا: { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ }.
وقوله - عز وجل -: { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ }.
ما وعد المؤمنين - عز وجل - [الجنة و] ما فيها من النعيم واللذات والشهوات، بقوله:
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71]، وقوله: { لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [الصافات: 46]: هذا الذي وعد للمؤمنين، ووعد الكفار النار، وما فيها من الشدائد وأنواع العذاب، فأقروا أنهم قد وجدوا ما وعدهم ربهم. وقوله - عز وجل -: { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً }: إن المراد بالحق الذي ذكر: الوعد الذي وعدهم وتفسير الحق الصدق، وإن كان الموعود فتأويله: وجدتموه كائناً حاضراً، وهو ما ذكرنا في قوله: { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [آل عمران: 140].
{ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ }.
أي: وجبت لعنة الله على الظالمين الذين وعدوا في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } يحتمل الملك، ويحتمل غيره، وليس يعرف ذلك إلا بالخبر، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.
فإن قيل: يذكر في الآية نداء أهل الجنة أهل النار، وأهل النار أهل الجنة، ونداء بعضهم بعضاً لا يكون إلا بحيث يكون بعضهم قريباً من بعض، وقد جاء في الأخبار من وصف الجنة وسعتها ما روي أن أقل ما يكون لواحد من الجنة مثل عرض الدنيا، وما ذكر أن الحور العين لو نظرت نظرة إلى الدنيا لامتلأت الدنيا من ضوئها ونورها، وكذلك من ريحها وعطرها، وقد جاء في وصف النار أن شرارة منها لو وقعت في الدنيا لأحرقتها أو كلام نحو هذا؛ فإذا كان بعضهم من بعض بحيث يسمعون بعضهم نداء بعض، ألا يتأذى أهل الجنة بالنار، وألا ينتفع أهل النار بنعيم الجنة، وكيف يعرف ذلك؟
قيل - والله أعلم [وذلك أن الله] قادر -: أن يوقع نداء هؤلاء بمسامع أولئك ونداء أولئك بمسامع هؤلاء، مع بعد ما بينهما؛ فيسمع كل فريق نداء الفريق الآخر.
أو أن يكون الله - تعالى - ينقض بنية هذا الخلق، وينشئهم في الآخرة على غير هذه البنية، مع ارتفاع الآفاق [والحجب فيسمع بعضهم من بعض من بعد الذي ذكر، وينظر بعضهم بعضاً لأن في الدنيا الآفات]، والحجب هي التي تمنع ذلك، فإذا ارتفع ذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
أو يقرب الجنة من النار والنار من الجنة؛ بحيث يسمع بعضهم من بعض ما ذكر من النداء.
أو يجعل ذلك في مسامعهم بما شاء وكيف شاء؛ كتسبيح الجبال وخطاب النمل وجوابه.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
الصد: [يكون] [منع] الغير، ويكون منع نفسه.
وقوله - عز وجل -: { سَبِيلِ ٱللَّهِ }، قيل: دين الله.
قال الحسن: سبيل الله: دين الله الذي ارتضى لعباده، وأمرهم بذلك، وإلى ذلك دعاهم رسله.
وقوله - عز وجل -: { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً }.
أي: يبغون الدين الذي فيه عوج، وهو دين الشيطان؛ كقوله:
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]، فالعوج هو التفرق الذي ذكر في تلك الآية، وأمكن أن يكون قوله: { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً }، أي: طعناً في دين الله، وقد كانوا يبغون طعناً في دين الله.