خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤٨
إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٩
-الأنفال

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ }.
قال بعضهم: زين لهم الشيطان أعمالهم بالوساوس، وقال: { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ }، وإنما قال لهم هذا ووسوس لهم لما ألقى إليهم: إنكم أهل حرم الله وسكان بيته وحفاظه، فيقول: يدفع عنكم نكبة هؤلاء، يعني: أصحاب محمد؛ كما دفع عنكم فيما كان من قبل.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ }.
قيل: مجير لكم: مغيث؛ فعلى هذا التأويل كان قوله: { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ }؛ كأنه يخبر عن الله أنه يغيثهم كما أغاثهم من قبل في غير مرة.
وقال بعضهم: إن الشيطان تمثل في صورة رجل يقال له سراقة بن مالك بن جعشم، فأتاهم فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم؛ فإنكم كثير وعدوكم قليل فتأمن عيركم ونحو هذا من الكلام.
وقال صاحب التأويل الأول: لا يحتمل هذا؛ لأن أهل مكة كانوا جبابرة، وأهل قوة وبطش وبأس، فلا يحتمل أن يصدروا عن آراء رجل هو دونهم وهم بالوصف الذي ذكرنا.
وعلى هذا التأويل أنه تمثل به فلان يكون قوله: { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } ما ذكر في بعض القصة أن أبا جهل وأصحابه اعتزلوا واستشاروا فيما بينهم، فأتاهم إبليس متمثلا بسراقة، فامتنعوا عنه واستأخروا، فلما رأى ذلك منهم، فقال: إني جار لكم وكان جاراً لهم؛ فتأويل هؤلاء أشبه بما ذكر في آخر الآية.
وقوله - عز وجل -: { فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ }، أي: رجع مستأخراً مقبلا بوجهه إليهم فقال: { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }: إذا عاقب.
قيل: رأى جبريل مع الملائكة ينزلون، فخاف منهم؛ ففيه دلالة أنه كان يخاف الهلاك قبل يوم الوقت المعلوم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }.
قال بعضهم: الذين في قلوبهم مرض هم المشركون { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }.
وعن الحسن: { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر؛ فسموا منافقين.
وقال بعض أهل التأويل: إن قوماً كانوا أسلموا بمكة، فأقاموا بها مع المشركين، ولم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى بدر خرج هؤلاء معهم، فلما عاينوا قلة المؤمنين وضعفهم، شكوا في دينهم وارتابوا فقالوا: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }، يعنون: أصحاب محمد.
يقول الله: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } فيثق بوعده في النصر ببدر؛ لقولهم: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }، { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ }: لا يعجزه شيء.
وقوله: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }؛ لأنه لم يكن معهم عدة ولا أسباب الحرب من السلاح وغيره، فلم يكونوا يقاتلون إلا بقوة دينهم.
وقوله: { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }.
فإن قيل لنا: ما الحكمة في ذكر قول المنافقين في القرآن حتى نتلوه في الصلاة؟!
قيل: ذكر - والله أعلم - لنعرف عظيم منزلة الدين وخطير قدره في قلوبهم، أعني: قلوب المؤمنين، وذلك أنهم بذلوا أنفسهم للهلاك؛ لخروجهم لقتال عدوهم مع ضعفهم، وقلة عددهم، وكثرة أعدائهم وقوتهم؛ رجاء أن يسلم لهم دينهم، يذكره لنا لنعرف عظيم محل الدين في قلوبهم؛ ليكون محل الدين في قلوبنا على مثل قدره.
وفي قوله: { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } دلالة إثبات رسالة محمد؛ لأنهم إنما قالوا ذلك سرّاً فيما بينهم، فأطلع الله رسوله على ذلك؛ ليعلم أنه عرف ذلك بالله.
ثم اختلف في قوله: { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }؛ قال بعضهم: هم المشركون، قال المنافقون والمشركون للمؤمنين: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }.
وقال بعضهم: هم قوم أسلموا وقد كانوا ضعفاء في الإسلام والدّين، فلما خرجوا إلى بدر، فرءوا ضعف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوة أولئك القوم قالوا عند ذلك: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }.
وقد ذكر في بعض القصة أن قوماً كانوا أسلموا بمكة، ثم أقاموا مع المشركين ولم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى قتال بدر خرج هؤلاء معهم، فلما عاينوا قلة المسلمين شكوا في دينهم وارتابوا، فقالوا مع المنافقين: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }، يعنون: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ }: من المؤمنين فيثق به في النصر ببدر؛ لقولهم: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }.
وقوله: { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }: يجيء أن يكون هم المنافقون؛ على ما فسره في آية أخرى، فإن كان على ذلك فيكون على إسقاط الواو، وكأنه قال: يقول المنافقون الذين في قلوبهم مرض، إلا أن يقال: إن المناقين هم الذين أضمروا الكفر حقيقة، والذين في قلوبهم مرض هم الذين لم يضمروا الكفر، لكنهم ارتابوا وشكوا، واعترضهم شك وارتياب من بعد إذ رأوا تأخر الموعود.
وقوله - عز وجل -: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } يخرج على وجهين:
أحدهما: قالوا: غر هؤلاء الموعود الذي وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتوح لهم والنصر في الدنيا؛ يقولون: غر هؤلاء ذلك الموعود الذي كانوا به من الفتوح والنصر الذي وعدهم.
والثاني: يقولون غر هؤلاء الموعود الذي وعدوا في الآخرة من النعيم الدائم والحياة الدائمة.
فيكون أحد التأويلين بالموعود في الآخرة، وهو بالإسلام يكون، والثاني بالموعود في الدنيا، وهو الفتح والنصر الذي ذكرناه.
وقوله: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ }.
لما رأوا أنهم تركوا آباءهم وأولادهم وجميع شهواتهم، وبذلوا أنفسهم للقتال؛ ليسلم لهم دينهم؛ لذلك قالوا: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } لما لم يكن خروجهم وبذلهم أنفسهم لذلك إلا إشفاقاً وخوفاً على دينهم، وطلبوا - لما بذلوا أنفسهم - حياة الأبد في الآخرة فقالوا: { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } والله أعلم.
وقوله: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ }.
أي: اعتمد على الله في حرب بدر - على ما ذكر أهل التأويل - والنصر فيه.
وقوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ }.
لا يعجزه شيء، يعز من يشاء بالنصر، ويذل من يشاء بالقتل والهزيمة.
أو يتوكل على الله في كل أموره، ويكل إليه أموره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
العزيز في هذا الموضع: هو الغالب، حكيم لما أمر بالقتل.