خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١١
لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ
١٢
لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٣
-النور

حاشية الصاوي

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ } الخ، شروع في ذكر الآيات المتعلقة بالإفك، وهي ثماني عشرة تنتهي بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [النور: 26] ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أن الله لما ذكر ما في الزنا من الشناعة والقبح، وذكر ما يترتب على من رمى غيره به، وذكر أنه لا يليق بآحاد الأمة، فضلاً عن زوجة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ذكر ما يتعلق بذلك. قوله: (أسوأ الكذب) أي أقبحه وأفحشه. قوله: (على عائشة) متعلق بالكذب، وقد عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهي بنت ست سنين أو سبع، ودخل عليها بالمدينة وهي بنت تسع، وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة. قوله: { عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } العصبة من العشرة إلى الأربعين، وإن كان من عينتهم وذكرتهم أربعة فقط، لأنهم هم الرؤساء في هذا الأمر. قوله: (من المؤمنين) أي ولو ظاهراً، فإن عبد الله بن أبي من كبار المنافقين. قوله: (قالت) أي عائشة في تعيين أهل الإفك. قوله: (وحمنة بنت جحش) هي زوجة طلحة بن عبيد الله.
قوله: { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة وصفوان تسلية لهم. قوله: { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي لظهور كرامتكم على الله وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيراً. قوله: (يأجركم الله به) أي بسبب الصبر عليه. قوله: (ومن جاء معها) أي يقود بها الراحلة. قوله: (وهم صفوان) أي السلمي بن المعطل. قوله: (في غزوة) قيل هي غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الرابعة، وقيل في السادسة. وسببها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه، وقائدهم الحرث بن ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بذلك خرج اليهم، حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فاقتتلوا فهزم الله بني المصطلق، وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم، وردها عليهم. قوله: (بعدما أنزل الحجاب) أي وهو قوله تعالى:
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [الزخرف: 53]. قوله: (وآذن) بالمد والقصر، أي اعلم. قوله: (وقضيت شأني) أي حاجتي كالبول مثلاً. قوله: (فإذا عقدي انقطع) أي وكان من جزع ظفار، وهو الخرز اليماني غالي القيمة، وكان أصله لأمها، أعطته لها حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه سلم، وقيل لأختها أسماء. قوله: (ألتمسه) أي أفتش عليه. قوله: (فجلست في المنزل الذي كنت فيه) أي وهذا من حسن عقلها وجودة رأيها، فإن من الآداب، أن الإنسان إذا ضل عن رفقته، وعلم أنهم يفتشون عليه، أن يجلس في المكان الذي فقدوه فيه ولا ينتقل منه، فربما رجعوا فلم يجدوه. قوله: (فنمت) أي وكانت كثيرة النوم لحداثة سنها. قوله: (وكان صفوان قد عرس) أي وكان صاحب ساقة رسول الله لشجاعته، وكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم، فما سقط منهم شيء إلا حمله، حتى يأتي به أصحابه. قوله: (فسار منه) أي فادلج بالتشديد سار من آخر الليل، وأما دلج سار من أوله. قوله: (في منزله) أي منزل الجيش الذي مكثت فيه عائشة. قوله: (وطئ على يدها) أي الراحلة خوف أن تقوم. قوله: (موغرين) أي اتينا الجيش في وقت القيلولة. قوله: (فهلك من هلك) أي تكلم بما كان سبباً في هلاكه. قوله: (فيّ) أي بسببي. قوله: (ابن أبي ابن سلول) نسب أولاً لأبيه ثم لأمه. قوله: (انتهى قولها) هذا باعتبار ما اختصره، وإلا فحديثها له بقية كما في البخاري وهي: فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً، وهم يفيضون من قول أصحاب الإفك، ويريبني في وجعي، أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ لا أشعر بشيء من ذلك، حتى نقهت بفتح فكسر، أي برئت من مرضي، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول، في البرية أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت رهم نمشي، فعثرت في مرطها، هو بكسر الميم، كساء من صوف ، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ماقلت: أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: يا هنتاه، أي قليلة المعرفة، ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبوي فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ قالت: يا بنيتي هوني على نفسك الشأن، فوالله قلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار اليه بالذي يعلم من نفسه بالود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيراً، واسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: يا بريرة هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق نبياً، إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها، هو بهمزة مفتوحة فغين معجمة فضاد مهملة، أي أعيبه وأنكره، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فيأتي الداجن، وهو بدال مهملة ثم جيم، ما يألف البيوت من الشاة والدجاج ونحو ذلك فيأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ وقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان: الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتي ويوماً، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فينما هما جالسان وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها، مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهد ثم قال: يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذتب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه، فلما قصى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي، أي انقطع جريانه حتى ما أحس منه بقطرة وقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وأنا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيراً من القرآن فقات: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم إني لبريئة لتصدقنني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلى أبا يوسف إذ قال: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } [يوسف: 18] ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ماظننت أن ينزل في شأني وحي، ولأنا أحفر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيّ اليوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام أن برح مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء أو الشدة والكرب، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان، أي اللؤلؤ من العرق في يوم شات، فلما سري أي كشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله، قالت أمي: قومي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم اليه ولا احمد إلا الله، فأنزل الله عز وجل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } الآيات. فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه: والله لا أنفق على مسطح بشيء أبداً بعدما قال في عائشة، فأنزل الله عز وجل: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ } الآية إلى قوله: { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور: 22] فقال أبو بكر: بل والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله احمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، قالت: وهي التي تساميني فعصمها الله بالورع. انتهى.
قوله: { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ } أي من العصبة. قوله: { مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ } أي جزاء ما اكتسب من الإثم في الدنيا، وهو لغير عبد الله بن أبيّ، فإنهم قد حدوا حد القذف، وعمي حسان وشلت يده في آخر عمره، وعمي مسطح أيضاً، أو في الدنيا والآخرة وهو لابن أبيّ، فعذبه الله بخزي الدنيا والخلود في النار. قوله: { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } لما بين سبحانه وتعالى حال الخائضين في الإفك، وأنهم اكتسبوا الإثم، شرع في توبيخهم وزجرهم بتسعة زواجر: الأول هذا، والثاني { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ } الخ، والثالث
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ } [النور: 14] الخ، والرابع { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [النور: 15] الخ، والخامس { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } الخ، السادس { يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ } [النور: 17] الخ، السابع { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ } [النور: 19] الخ، الثامن { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النور: 20] الخ، التاسع { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } - إلى - { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور: 21] ولولا هنا للتوبيخ لدخولها على الماضي، لأن لولا لها ثلاثة أحوال: إذا دخلت على ماض كان معناها التوبيخ، وإذا دخلت على مضارع كان معناها التحضيض، وإذا دخلت على جملة اسمية كانت امتناعية، وقد كررت هنا في ست مواضع: الأول والثاني والرابع توبيخية لا جواب له، والثالث والخامس والسادس شرطية، ذكر جوابها في الثالث والسادس وحذف في الخامس فتدبر، وإذا ظرف لظن، والمعنى كان ينبغي لكم بمجرد سماعه، أن تسحنوا الظن في أم المؤمنين، ولا تصروا على الأمر القبيح بعد سماعه. قوله: { بِأَنْفُسِهِمْ } أي بأبناء جنسهم في الايمان والصحة. قوله: (فيه التفات عن الخطاب) أي إلى الغيبة، إذ كان مقتضى الظاهر ظننتم، وحكمته التسجيل عليهم والمبالغة في توبيخهم.
قوله: { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ } أي الإفك. قوله: (شاهدوه) أي عاينوا الزنا: قوله: (في حكمه) أي الشرعي لأن مداره على الشهادة والأمر الظاهر، وهذا جواب عما يقال: إنهم كاذبون عند الله مطلقاً ولو أتوا بشهداء، فأجاب: بأنهم كاذبون باعتبار حكم الشرع، ولا شك أنهم لو أتوا ببينة معتبرة، لكان حكم الله أنهم صادقون في الظاهر، فأراد الله أن يكذبهم ظاهراً وباطناً.