خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
-طه

لطائف الإشارات

قوله جلّ ذكره: { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ }.
كان ذلك وحيَ إلهامٍ؛ ألقَى اللَّهُ في قلبها أن تجعله في تابوت، وتلقيه في اليمِ يعني نهر النيل، فَفَعَلَتْ، فألقاه النهر على الساحل، فَحُمِلَ إلى فرعون. فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُ امرأةِ فرعون عليه باشر حبُّه قلبَها، وكذلك وقعت محبتُه في قلبِ فرعون، ولكنها كانت أضعفَ قلباً، فسبقت بقولها:
{ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ.... } [القصص: 9]، ولولا أنها عَلِمَتْ أنه أخذ شعبةً من قلبِ فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل: { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } [القصص: 9].
قوله: { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ }: ربَّاه في حِجْرِ العدو وكان قد قَتَلَ بسببه ألوفاً من الوالدان... ولكنْ مِنْ مَأمنِهِ يُؤْتى الحَذِرُ! وبلاءُ كلِّ أحدٍ كان بَعْدَه إلا بَلاءَ موسى عليه السلام فإنه تَقَدَّمَ عليه بسنين؛ ففي اليوم الذي أخذ موسى في حِجْرِه كان قد أمر بقتل كثير من الولدان، ثم إنه ربَّاه ليكونَ إهلاكُ مُلْكِهِ على يده... لِيُعْلَمَ أَنَّ أَسرارَ الأقدار لا يعلمها إلا الجبارُ.
يقال كان فرعون يُسَمَّى والدَ موسى وأباه - ولم يكن. وكان يقال لأُمِّ موسى ظئر موسى - ولم تكن؛ فَمِنْ حيثُ الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة... هكذا الحديث والقصة.
ولقد جاء في القصة أنّ موسى لمَّا وَضِعَ في حِجْر فرعون لَطَمَ وجهه فقال: إنَّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أَنْ يُقْتَلَ، فقالت امرأتُه: إنه صبيٌّ لا تمييزَ له، ويشهد لهذا أنه لا يُمَيِّزُ بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء، وأرادت أن يصدِّق زوجُها قالتَها، فاستحضرت شيئاً من النار وشيئاً من الجواهر، فأراد موسى عليه السلام أن يمدَّ يَدَه إلى الجواهر فأخذ جبريلُ عليه السلام بيده وصَرَفَها إلى النار فأخَذَ جَمْرةً بيده، وقرَّبها مِنْ فيه فاحترقَ لِسانُه - ويقال إنَّ العقدةَ التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق - فعند ذلك قالت امرأةُ فرعون: ها قد تبينَّ أن هذا لا تمييزَ له، فقد أخذ الجمرة إلى فيه. وتخلَّص موسى بهذا مما حصل منه من لَطْمِ فرعون.
ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق مِنْ أَخْذِ الجمرة وهو صبيٌّ رضيع، ثم احترق لسانه، فعلم الكلُّ أن هذا الأمر ليس بالقياس. فإنه سبحانه فعَّال لما يريد.
قوله جلّ ذكره: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }.
أي أحببتك. ويقال في لفظ الناس: فلانٌ ألقى محبته على فلان أي أَحَبَّه. ويقال: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }: أي طَرَحْتُ في قلوب الناس محبةً لك، فالحقُّ إذا أحبَّ عبداً فكلُّ مَنْ شاهده أحبَّه. ويقال لملاحةٍ في عينيه؛ فكان لا يراه أحدٌ إلا أَحَبَّه.
ويقال: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }: أي أثْبَتُّ في قلبك محبتي؛ فإن محبةَ العبدِ لله لا تكون إلا بإثباتِ الحق - سبحانه - ذلك في قلبه، وفي معناه أنشدوا:

إنَّ المحبةَ أَمْرُها عَجَبٌ تُلْقَى عليكَ وما لها سَبَبُ

قوله جلّ ذكره: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ }.
أي بمرأىً مني، ويقال لا أُمَكِّن غيري بأَنْ يستَبْعِدَكَ عني.
ويقال أحفظك من كل غَيْرٍ، ومن كلِّ حديثٍ سوى حديثنا. ويقال ما وَكَلْنَا حِفْظَكَ إلى أحدٍ.