خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
٢٣
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
٢٤
فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥
-القصص

لطائف الإشارات

{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }.
لمَّا وافى مدينَ شعيب كان وقت الهاجرة، وكانت لهم بئر يستقون منها، فيصبون الماءَ في الحياضِ، ويسقون أغنامهم، وكانوا أهل ماشية.
وكان شعيبُ النبيُّ عليه السلام قد كُفَّ بَصَره لكثرة بكائه؛ ففي القصة أنه بكى فذهب بَصَرَه، ثم رَدَّ الله عليه بَصَرَه فبكى، فردَّ الله بصرة فبكى حتى ذهب بَصَرَهُ، فأوحى الله إليه: لِمَ تبكي يا شعيب..؟ إِنْ كان بكاؤك لخوف النار فقد أَمَّنْتُكَ، وإن كان لأَجْلِ الجنة فقد أَتَحْتُها لك.
فقال: ربِّ..إنما أبكي شوقاً إليك. فأوحى الله إليه لأجل ذلك أَخْدَمْتُكَ نَبِيِّي وكليمي عَشْرَ حجج.
وكانت لشعيب أغنامٌ، ولم يكن لديه أجير، فكانت بِنْتاه تسوقان الغنْمَ مكانَ الرعاة، ولم يكن لهما قدرة على استقاء الماء من البئر، وكان الرعاة يستقون، فإذا انقضَوْا فإنْ بَقِيَتْ في الحوضِ بقيةٌ من الماء استقت بنات شعيب.
فلمَّا وافى موسى ذلك اليومَ وشاهَدَ ذلك ورآهما يمنعان غنمهما عن الماء رَقَّ قلبُه لهما وقال: ما خطبُكما؟ فقالتا: { لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }. وليس لدينا أجير. فلمَّا انصرف الرعاةُ سَقَى لهما، ثم تولّى إلى ظلِّ جدارٍ بعد ذلك. كان الجوع قد أصابه خلال سَفَرِه، ولم يكن قد تعوَّد، قط الرحلةَ والغُرْبةَ، ولم يكن معه مالٌ، فدعا الله:
{ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }.
قيل طَلَبَ قوةً تُزِيل جوعَه، وقيل طَلَبَ حالاً يستقِلُّ بها. والأحسن أن يقال جاع فَطَلَبَ كِسْرَة يَسُدُّ بها رَمَقَه - والمعرفة توجِب سؤالَ ما تحتاج إليه من الله قليلاً أو كثيراً. فلمَّا انصرفت ابنتا شعيب خَرَجَ شعيبُ إلى ظاهر الصحراء على طريق الماشية ليمسَّها بيديه فوجَدَ أثرَ الزيادة في تلك الكَرَّة، فسأَلَهما فَذَكَرَتا له القصة، وما سمعتا منه حين قال: { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فقال شعيب: إذاً هو جائع. وبَعَثَ إحداهما لتدعوَه:-
{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }.
قيل إنما استحيَتْ لأنها كانت تخاطِبُ مَنْ لم يكن لها مَحْرَماً.
وقيل لمّا دَعَتْه للضيافة تكلمتْ مستحييةً - فالكريم يستحي من الضيافة.
ويقال لم تَطِبُ نَفْسُ شعيب لمَّا أَحْسَنَ موسى إليه وأنه لم يكافئه - وإن كان موسى لم يُرِدْ مكافأةً منهم { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ }: لم يَقُلْ: فلما جاءَه قَدَّم السُّفْرةَ بل قال: وقصَّ عليه القصص.. وهذا طَرَفٌ من قصته.
ويقال: وَرَدَ بظاهرِه ماءَ مدين، ووَرَدَ بقلبه موارِدَ الأُنْس والرَّوْح. والموارد مختلفة؛ فمواردُ القلبِ رياضُ البَّسطِ بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطَفَة، ومواردُ الأرواح مشاهدُ الأرواح فيُكَاشَفون بأنوار المشاهدة، فيغيبون عن كل إحساسٍ بالنَّفْسِ، ومواردُ الأسرارِ ساحاتُ التوحيدِ.. وعند ذلك الولاية لله، فلا نَفْسَ ولا حِسَّ، ولا قلبَ ولا أُنْسَ.. استهلاكٌ في الصمدية وفناءٌ بالكليةّ!
ويقال كانت الأجنبيةُ والبعد عن المحرميَّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما، والإعراضَ والسكونَ عن سؤالهما.. ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسِّرِّ استنطقة حتى سألهما عن قصتهما، كما قيل:

أَجَارَتَنا إِنَّا غريبان ها هنا وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ

ويقال: لمَّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيامُ بأمرهما؛ ليُعْلَمَ أنَّ مَنْ تَفَقَّدَ أمرَ الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤُهم.
ويقال مِنْ كمالِ البلاء على موسى أَنَّه وافى الناسَ وكان جائعاً، وكان مقتضى الرِّفْقِ أَنْ يُطْعِموه، ولكنه قَبَضَ القلوبَ عنه، واستقبله مِنْ موجباتِ حُكْمِ الوقتِ أَنْ يعملَ عَمَلَ أربعين رجلاً؛ لأن الصخرة التي نَحَّاها عن رأس البئر - وَحْدَه - كان ينقلها أربعون رجلاً، فلمَّا عَمِلَ عَمَلَ أربعين رجلاً، تولَّى إلى الظِّلِّ، وقال: إنْ رأيتَ أَنْ تُطْعِمَني بعد مُقَاساة اللتيا والتي.. فذلك فَضْلُكَ!.
قال ذلك بلسان الانبساط، ولا لسانَ أحلى من ذلك. وسُنَّةُ الشكوى أن تكون إليه لا مِنْكَ.. بل منه إليه.
ويقال: تولَّى إلى ظلِّ الأُنْس ورَوْح البسط واستقلال السِّرِّ بحقيقة الوجود.
ويقال قال: { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }: فَزِدْني فقراً؛ فإنَّ فقري إليك يوجِبُ استعانتي بك.