خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٠
شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٢١
وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٢٢
ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٢٣
-النحل

تفسير القرآن

{ إن إبراهيم كان أمّة } قد مرّ أن كل نبي يبعث في قوم يكون كماله شاملاً لجميع كمالات أمته وغاية لا يمكن لأمّته الوصول إلى رتبة إلا وهى دونه، فهو مجموع كمالات قومه ولا يصل إليهم الكمال في صفة من صفات الخير والسعادة إلا بواسطته بل وجوداتهم فائضة من وجوده فهو وحده أمة لاجتماعهم بالحقيقة في ذاته، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لو وزنت بأمتي لرجحت بهم" . { قانتاً } لله مطيعاً له، منقاداً بحيث لا يتحرك منه شعرة إلا بأمره لاستيلاء سلطان التوحيد عليه ومحو صفاته بصفاته، واتحاده بذاته، ولهذا سمي خليل الله لمخالة الحق إياه في شهوده. فخلّته عبارة عن مزج بقية من ذاته تؤذن بالإثنينية أما ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يبق منه شيء من بقيته سمي حبيب الله فمحو صفاته في صفات الحق بالكلية وبقاء أثر من ذاته دون العين قنوته لله وإلا كان قانتاً بالله لا لله، كما قال لمحمد عليه الصلاة والسلام: { { وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [النحل، الآية: 127] { حنيفاً } مائلاً عن كل باطل حتى عن وجوده ووجود كل ما سواه تعالى معرضاً عن إثباته. وما كان { من المشركين } بنسبة الوجود والتأثير إلى الغير. { شاكراً لأنعمه } أي: مستعملاً لها على الوجه الذي ينبغي لكونه متصرفاً فيها بصفات الله فتكون أفعاله إلهية مقصودة لذاتها لا لغرض فلا يمكنه ولا يسعه إلا توجيه كل نعمة إلى ما هو كمالها على مقتضى الحكمة الإلهية والعناية السرمدية { اجتباه } اختاره في العناية الأولى بلا توسط عمل منه وكذا لكونه من المحبوبين الذين سبقت لهم منه الحسنى، فتتقدم كشوفهم على سلوكهم { وهداه إلى صراط مستقيم } أي: بعد الكشف والتوحيد والوصول إلى عين الجمع هداه إلى سلوك صراطه ليقتدي به، وردّه من الوحدة إلى الكثرة وإلى الفرق بعد الجمع لإعطاء كل ذي حق حقه من مراتب التفاصيل، وتبيين أحكام التجليات في مقام التمكين والاستقامة وإلا لم يصلح للنبوّة.
{ وآتيناه في الدنيا حسنة } من تمتيعه بالحظوظ لتتقوى نفسه على تقنين القوانين الشرعية والقيام بحقوق العبودية في مقام الاستقامة والإطاقة بحمل أعباء الرسالة { وآتيناه } المُلْك العظيم مع النبوة، كما قال:
{ { وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [النساء، الآية: 54] ليتمكن من تقرير الشريعة ويضطلع بأحكام الدعوة والذكر الجميل كما قال: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } [مريم، الآية: 50] والصلاة والسلام عليه كما قال: { { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الصافات، الآيات: 108-109] { وإنه في الآخرة } أي: في عالم الأرواح { لمن الصالحين } المتمكنين في مقام الاستقامة بإيفاء كل ذي حق حقه، وتبليغه إلى كماله وحفظه عليه ما أمكن.
ُ{ ثم أوحينا إليك } أي: بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في الدارين شرّفناه وكرمناه بأمرنا باتباعك إياه { أن اتّبع ملّة إبراهيم } في التوحيد وأصول الدين التي لا تتغير في الشرائع كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها، لا في فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة والطبائع وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق.