خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً
٧
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
٨
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
-الكهف

تفسير القرآن

فلما لم يؤمنوا بالقرآن استشعر ببقية من نفسه وتوجس بنقصان حاله فعلاه الوجد وعزم على قهر النفس بالكلية طلباً للغاية وكان ذلك من فرط شفقته عليهم وكمال أدبه مع الله حيث أحال عدم إيمانهم على ضعف حاله لا على عدم استعدادهم ولذلك سلاّه بقوله: { إنّا جعلنا } أي: لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعاً، إنّا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء ثم نفنيها ولا حيف ولا نقص، أو إنّا جعلنا ما على أرض البدن من النفس ولذاتها وشهواتها وقوى صفاتها وإدراكاتها ودواعيها { زينة } لها ليظهر أيهم أقهر لها وأعصى لهواها في رضاي وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
{ وإنّا لجاعلون } بتجلينا وتجلي صفاتنا { ما عليها } من صفاتها هامدة كأرض ملساء لا نبات فيها أي: نفنيها وصفاتها بالموت الحقيقي أو بالموت الطبيعي ولا نبالي، بل { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } أي: إذا شاهدت هذا الإنشاء والإفناء فليس حال أصحاب الكهف آية عجيبة من آياتنا بل هذه أعجب. واعلم أن أصحاب الكهف هم السبعة الكمل القائمون بأمر الحق دائماً الذين يقوم بهم العالم ولا يخلو عنهم الزمان على عدد الكواكب السبعة السيّارة وطبقها فكما سخرها الله تعالى في تدبير نظام عالم الصورة كما أشار إليه بقوله:
{ { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [النازعات، الآيات: 4-5] على بعض التفاسير وكل نظام عالم المعنى وتكميل نظام الصورة إلى سبعة أنفس من السابقين كل ينتسب بحسب الوجود الصوري إلى واحد منهم، والقطب هو المنتسب إلى الشمس والكهف هو باطن البدن والرقيم ظاهره الذي انتقش بصور الحواس والأعضاء إن فسر باللوح الذي رقمت فيه أسماؤهم والعالم الجسماني إن جعل اسم الوادي الذي فيه الجبل والكهف والنفس الحيوانية إن جعل اسم الكلب والعالم العلوي إن جعل اسم قريتهم على اختلاف الأقوال في التفاسير ومنهم الأنبياء السبعة المشهورون المبعوثون بحسب القرون والأدوار، وإن كان كل نبيّ منهم على ذكر وهم: آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأنه السابع المخصوص بمعجزة انشقاق القمر، أي: انفلاقه عنه لظهوره في دورة ختم النبوة وكمل به الدين الإلهي كما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" . إذ المتأخر بالزمان والظهور أي: الوجود الحسيّ هو الحائز لصفات الكلّ وكمالاتهم كالإنسان بالنسبة إلى سائر الحيوانات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "كأنّ بنيان النبوّة قد تمّ وبقي منه موضع لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة" . وقد اتفق الحكماء المتألهة من قدماء الفرس أن مراتب العقول والأرواح على مذهبهم في التنازل تتضاعف إشراقاتها، فكل من تأخر في الرتبة كان حظه من إشراقات الحق وأنواره وسبحات أشعة وجهه وإشراقات أنوار الوسائط أوفر وأزيد فكذا في الزمان فهو الجامع الحاصر لصفات الكل وكمالاتهم الحاوي لخواصهم ومعانيهم مع كماله الخاص به اللازم للهيئة الاجتماعية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ومن هذا ظهر تقدّمه عليهم بالشرف والفضيلة ومن جهة أن إبراهيم عليه السلام كان مظهر التوحيد الأعظمي الذاتي، وكان هو الوسط في الترتيب الزماني بمنزلة الشمس في الرتبة كان قطب النبوة، ولزمهم كلهم اتباعه وإن لم يظهر في المتقدمين عليه بالزمان كارتباط الكواكب الستة في سيرها بها، ولكن كالقمر، فمتبعه بالحقيقة محمد صلى الله عليه وسلم. واعلم أن الأرواح في عالمها مراتب متعينة، وصفوف مترتبة واستعدادات متفاوتة متهيئة في الأزل بمحض العناية الأولى والفيض الأقدس فأهل الصف الأول هم السابقون المفردون المقرّبون المحبوبون المخصوصون بفضل عنايته وسابقة كرامته المتعارفون بنوره المتحابون فيه، والباقون يتباينون في الدرجات وبحسب تقاربها وتباعدها، يتعارفون ويتناكرون، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف إلى آخر الصفوف، فلها مراكز ثابتة، وأصول راسخة في العالم العلوي وعند التعلق بالأبدان يتفاوت درجات كمالاتها وغاية سعاداتها بحسب ما لها من الاستعداد الأول المخصوص بكل منها من مباديها في الأزل كما قال عليه الصلاة والسلام: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" ، حتى انتهت الدرجات في العلوّ إلى الفناء في التوحيد الذاتي، فبهذا الاعتبار يكون محمد عليه السلام عين آدم بل عين السبعة وكذا باعتبار كونه جامعاً لصفاتهم كما قيل إنه سأله أبو يزيد رحمة الله عليه: أنت من السبعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا السبعة" . وباعتبار علوّ مرتبته ومكانته، وسبقه في القدم وارتفاع درجة كماله وفضيلته، كان أقدمهم وأولهم وأفضلهم كما قال: "أول ما خلق الله نوري وكنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين" . فهو متقدم عليهم بالرتبة والعلية والشرف والفضيلة، متأخر عنهم بالزمان وهو عينهم باعتبار السر والوحدة الذاتية، فالحاصل أن اختلافهم وتباينهم روحاً وقلباً ونفساً لا ينافي اتحادهم في الحقيقة وكذا افتراقهم بالأزمنة لا ينافي معيتهم في الأزل والأبد وعين الجمع كما قال: { { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة: 253] مع قوله: { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [البقرة، الآية: 136]. ويجوز أن يكون المراد بأصحاب الكهف روحانيات الإنسان التي تبقى بعد خراب البدن. وقول من قال: ثَلاَثَة، إشارة إلى الروح والعقل والقلب. والكلب هي النفس الملازمة لباب الكهف. ومن قال: خَمْسَة إشارة إلى الروح والقلب والعقل النظري والعقل العمليّ والقوة القدسية للأنبياء التي هي الفكر لغيرهم. ومن قال: سَبْعَة فتلك الخمسة مع السرّ والخفاء والله أعلم.