خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

تفسير القرآن

{ ولقَد علِمْتم الذين اعتدوا } اعلم: أن الناس لو أهملوا وتركوا وخلّي بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية، والغواشي الظلمانية لضراوتهم بها واعتيادهم من الطفولية والصبا حتى زالت استعداداتهم وانحطوا عن رتبة الإنسانية، فمسخوا كما قال تعالى: { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة: 60]، وإن حفظوا وروّعوا بالسياسات الشرعية والعقلية والحكم والآداب والمواعظ الوعدية والوعيدية ترقوا وتنوّروا، كما قال الشاعر:

هي النفس إن تهمل تلازم خساسة وإن تبتعث نحو الفضائل تبهج

فلهذا وضعت العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة لتزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتخاذ اللذات، وارتكاب الشهوات. فتتنوّر بواطنهم بنور الحضور، وتنتعش قلوبهم بالتوجه إلى الحق عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتستريح بروح الروح، وحبّ الوحدة عن وحشة الهوى، وتعلق الكثرة، كما قال عليه السلام: "الصلاة بعد الصلاة كفارة ما بينهما من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر" . ألا ترى كيف أمرهم عند الحدث الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير الغسل، وعند الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال بالأشغال الدنيوية في ساعات اليوم والليل بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات الحواس الخمس الحاصلة في النفس بسببها، كل بما يناسبه، فلذلك وضعوا بإزاء وحشة تفرقة الأسبوع وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب، والملابس البدنية، والملاذ النفسانية، اجتماع يوم واحد على العبادة والتوجه لتزول وحشة التفرقة بأنس الاجتماع وتحصل بينهم المحبة والأنس وتزول ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية والإعراض عن الحق بنور العبادة والتوجه، ويحصل لهم التنوّر فوضع لليهود أول أيام الأسابيع لكونهم أهل المبدأ والظاهر، وللنصارى بعده لأنهم أهل المعاد والروحاني والباطن المتأخرين عن المبدأ والظاهر بالنسبة إلينا، وللمسلمين آخرها الذي هو يوم الجمعة لكونهم في آخر الزمان أهل النبوّة الخاتمة وأهل الوحدة الجامعة للكل، وإن جعل السبت آخر الأيام - على ما نقل أنه السابع - فبالنسبة إلى الحقّ تعالى لأن عالم الحسّ الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم، وعالم العقل الذي إليه دعوة النصارى أوّلها، والجمعة هي يوم الجمع والختم، فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلاً زال نور استعداده، فمسخ كما مسخت أصحاب السبت. نهوا عن الصيد، أي: إحراز الحظوظ النفسانية واقتنائها في يوم السبت، فاحتالوا فيه فاتخذوا حياضاً على ساحل البحر ليحبسوا فيها الحيتان ويصطادوها يوم الأحد. أي: ادخروا في سائر أيام الأسبوع من ماء بحر الهيولى الجرمية والجرمانيات المادية في حياض بيوتهم فجمعوا بها أنواع المطاعم والمشارب والملاذ والملاهي، فاجتمع لهم كل الحظوظ النفسانية في يوم السبت ما اكتفوا به سائر أيام الأسبوع ليفرغوا فيها إلى الاشتغال بالمكاسب والصناعات والمهن، كحما هو عادة اليهود اليوم وشطار المسلمين في الجماعات فإن أكثر فسقهم فيها، فذلك اعتيادهم في السبت وهو يدل على أنّ جميع أوقات حضورهم مصروفة في هموم الدنيا وطلب حظوظ النفس والهوى. كما ترى اليوم واحداً من المسلمين قالبه في المسجد في الصلاة وقلبه في السوق في المعاملة، حتى قال أحدهم: جريدة حسابي هي الصلاة. أي: إذا فرغت من أشغال الدنيا إلى الصلاة أخذ قلبي في تصفح تجاراتي وما لي على الناس وما للناس عليّ، وذلك موجب للانحطاط عن العالم العلويّ الإنساني إلى الأفق السفليّ الحيواني. وهو معنى قوله:
{ فقلنا لهُم كونوا قردة } أي: مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم { خَاسِئينَ } بعيدين، طريدين. والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة، ووردت به الآيات والأحاديث كقوله تعالى:
{ { وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة، الآية: 60]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر بعض الناس على صور يحسن عندها القردة والخنازير" . وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام: "المسوخ ثلاثة عشر" ، ثم عدّهم وبيّن أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم. والحاصل أنّ من غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده وتمكن في طباعه وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلاً صار طباعه طباع ذلك الحيوان ونفسه نفسه، فاتصلت روحه عند المفارقة ببدن يناسب صفته فصارت صفته صورته والله أعلم بذلك.