{ إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب } في جحيم الطبيعة وهاوية الهيولى على من خالفه وأعرض عنه { فمن ربّكما } إشارة إلى احتجاب النفس من جناب الربّ، وقوله: { ربنا الذي أعطى } هداية لها بالدليل وتبصيراً بالحجة، أي: أعطاه خلقاً على وفق مصالح ذاته وآلات تناسب خواصه ومنافعه ومقاصده وهداه إلى تحصيلها { فما بال القرون الأولى } إشارة إلى احتجابها عن المعاد والأحوال الأخروية من السعادة والشقاوة وعن إحاطة علم الله تعالى لها. ولما كان الواجب الأول معرفة الله تعالى بصفاته وكانت معرفة المعاد موقوفة عليها أجاب بإحاطة علمه بها وبأحوالها مع كثرتها وكون ذلك العلم مثبتاً في اللوح المحفوظ باقياً أزلاً وأبداً، لا يجوز عليه الخطأ والنسيان.
{ الذي جعل لكم } أيها القوى البدنية أرض البدن { مهداً وسلك لكم فيها سبلاً } من الأعضاء والجوارح كالعين والأذن والأنف وغيرها { وأنزل } من سماء الروح ماء الإدراك والمدد الروحاني { فأخرجنا به } أصنافاً من الإدراكات والأفاعيل والخواص والهيئات والملكات المخصوصة بكل قوة منكم { كلوا } اغتذوا وتقووا بما يختص بكم من الأحوال والأخلاق والأمداد والمواهب كالرضا والصبر وعلم الأسماء والخواص والأعداد وسائر الإدراكات والإرادات والمقامات { وارعوا أنعامكم } القوى الحيوانية بما يختص بها من الأخلاق والآداب { منها خلقناكم } أنشأناكم على حسب اختلاف أمزجة الأعضاء التي هي مظاهرها { وفيها نعيدكم } بإماتة عند الرياضة حتى يلازم كل محله ويندس فيه لا حراك به ولا يتطلب التجاوز عن حدّه والاستيلاء على غيره بمحو صفات النفس حتى الفناء { ومنها نخرجكم تارة أخرى } عند البقاء بالحياة الموهوبة الحقيقية فتعتدل حركاتها وتفضل ملكاتها.