خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ
٣٤
قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ
٣٥

تفسير القرآن

{ ولقد فتنا سليمان } ابتليناه مرة أخرى بما هو أشدّ من هذا التلوين وهو إلقاء الجسد على كرسيه، وقد اختلف في تفسيره على ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ولد له ابن فهمّ الشياطين بقتله مخافة أن يسخّرهم كأبيه، فعلم بذلك فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربّه. والثاني: أنه قال ذات يوم: لأطوفنّ على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهنّ ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. فعلى هذين الوجهين يكون ابتلاؤه بمحبة الولد، فظهور النفس بميله إليه إما بشدّة الاهتمام بحفظه وتربيته وصونه عن شياطين الأوهام والتخيلات في سحاب العقل العملي وتغذيته بالحكمة العقلية واعتماده في ذلك على العقل والمعقول واستحاكم أهله لكماله دون تفويض أمره فيه إلى الله واتكاله في شأنه عليه، فابتلاه الله بموته، فتنبه على خطئه في شدّة حبه للغير وغلبة أهله، وإما بظهور النفس في الاقتراح والتمني وغلبة الحسبان والظنّ والاحتجاب عن الاستيهاب بالعادة والفعل وبالتدبير عن التقدير والذهول عن أمر الحق بغلبة صفات النفس، فابتلاه الله بالمعلول البعيد عن المراد الذي تصوّره في نفسه وقدّره، فأناب الرجوع إلى الحق عند التنبه على ظهور النفس وتدارك التلوين بالاستغفار والاعتذار في التقصير. والوجه الثالث: أنه غزا صيدون مدينة في بعض جزائر البحر، فقتل ملكها وكان عظيم الشأن، وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً، فاصطفاها لنفسه بعد أن أسلمت وأحبها وقد اشتدّ حزنها على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش لنفسه الرماد، فجلس عليه تائباً إلى الله متضرّعاً. وكانت له أمّ ولد يقال لها: أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوماً وأتاها الشيطان صاحب البحر اسمه صخر على صورة سليمان فقال: يا أمينة، خاتمي! فتختم به وجلس على كرسيّ سليمان وغيّر سليمان على هيئته فأنكرته وطردته، فعرف أن الخطيئة قد أدركته فأخذ يدور على البيوت بتكفف، وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه. ثم عمد إلى السمّاكين يخدمهم، فمكث على ذلك أربعين صباحاً ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به وخرّ ساجداً ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وقذفه في البحر.
فإن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع كان قد اشتدّ تلوينه وابتلى بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما السلام، والحكاية من موضوعات حكماء اليهود وعظمائهم كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات إيسال وسلامان وأمثالها، وتأويلها والله أعلم بصحتها ووضعها: أنّ سليمان قصد مدينة صيدون البدن، جزيرة في بحر الهيولى، وقتل ملكها النفس الأمارة العظيم الشأن ظاهر الطغيان بالمجاهدة في سبيل الله، وأصاب بنتاً له اسمها جرادة وهي القوى المتخيلة بالطيارة كالجرادة، تجرّد أشجار الأجسام والأشياء كلها بنزع صورها عن موادّها مكتوفة بلواحقها حزينة، وهي من أحسن الناس صورة في تزيينها وتسويلها نفسها وما تخيلته من مدركاتها، وأسلمت على يده، أي: انقادت للعقل ورجعت عن دين الوهم، فصارت مفكرة، فاصطفاها لنفسه وأحبها لتوقف حصول كماله عليها، وحزنها على أبيها: ميلها إلى النفس بطبعها وتأسفها على فوات حظوظها. وأمره للشيطان بتمثيل صورة أبيها وكسوتها مثل كسوته هو إشارة إلى منشأ تلوينه وابتلائه بالميل إلى النفس واغتراره بكماله واشتغاله بحظوظ النفس قبل أوانه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى".
وطاعة الشيطان له: تسخير القوّة الوهمية له في إعادة النفس إلى الهيئة الأولى وإن لم تكن على قوّتها الأولى، وحياتها من الهوى: لكونه مصوناً عن الاحتجاب معنياً به في العناية، وسجود جرادة وولائدها له كعادتهنّ في ملكه: تعبّد الفكرية وسائر القوى البدنية للنفس بالانقياد والمراعاة والخدمة وإيصال الحظوظ إليها كعادتهنّ في الجاهلية الأولى، وإخبار آصف سليمان بذلك: تنبيه العقل للقلب على تلوينه عند قرب موته، وكسر الصورة وعقاب المرأة: ندامته وتوبته عن حاله، وتنصله متضرّعاً إلى الله وكسره للنفس بالرياضة وخروجه وحده إلى الفلاة: تجرّده عن البدن عند سقوط قواه، وفرش الرماد وجلوسه فيه: تغير المزاج وترمد الأخلاط مع بقاء العلاقة البدنية، وأمّ الولد المسماة أمينة هي: الطبيعة البدنية أمّ الأولاد القوى النفسانية التي يضع هو خاتم بدنه عندها وقت الاشتغال بالأمور الطبيعية والضروريات البدنية كالدخول في الخلوة وإصابة المرأة وأمثالها، وهي أمينة على حفظه. وكون ملكه في خاتمه: إشارة إلى توقف كماله المعنوي والصوري على البدن، والشيطان الذي جاءها فأخذ منها الخاتم: هو الطبيعة العنصرية الأرضية صاحب بحر الهيولى السفلية سمي صخراً لميله إلى السفل وملازمته كالحجر للثقل، وتختمه به: لبسه به بانضمامه إلى نفسه، وجلوسه على كرسي سليمان: هو إلقاء الله تعالى بدنه ميتاً على موضعه وسرير سلطنته كما قال تعالى: { وألقينا على كرسيه جسداً } وتغيّر سليمان عن هيئته بقاء الهيئات الجسمانية والآثار الهيولانية من بقايا الصفات النفسانية عليه بعد المفارقة البدنية وتغيره عن النورانية الفطرية والهيئة الأصلية، وإتيانه أمينة لطلب الخاتم: ميله إلى البدن ومحبته له وشوقه إليه، وإنكارها إياه وطردها له: عبارة عن عدم قبول الطبيعة البدنية الحياة لبطلان المزاج، ودوره على البيوت متكففاً: ميله إلى الحظوظ واللذات الجسمانية وانجذابه إليها بالشوق للهيئات النفسانية، وحثيهم التراب على وجهه وسبّهم إياه عبارة عن: حرمانه من تلك الحظوظ واللذات وفقدان أسباب تلك الشهوات، وقصده إلى السمّاكين وخدمته لهم: إشارة إلى الميل إلى قرارة الأرحام المتعلق بالنطفة، ومكثه أربعين يوماً في خدمة السمّاكين: إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الرباني:
"خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحاً" ، وطيران الشيطان: سريان الطبيعة العنصرية في التركيب، وإلقاؤه الخاتم في البحر: تلاشي التركيب البدني في البحر الهيولاني، وابتلاع السمكة إياه: جذب الرحم للمادة البدنية التي هي النطفة، ووقوع السمكة في يد سليمان: تعلقه في الرحم بها واستيلاؤه على الرحم بالاغتذاء منه والتصرّف فيه، وبقر بطنها وأخذ الخاتم منه وتختمه به: فتح الرحم وإخراج البدن منه وتلبسه به وخروره ساجداً ورجوع ملكه: حصول كماله به بالانقياد لأمر الله والفناء فيه، وجعله لصخر في صخرة وإلقاؤه إياه في البحر: إبقاء الطبيعة الأرضية على حالها منطبعة محبوسة في باطن الجرم ملازمة للثقل، والميل إلى السفل في بحر الهيولى عند وجود الطبيعة البدنية وتركه إياه فيه غير قادر على استيلاء أمينة وأخذ الخاتم منها إلى حين: { ثم أناب } بعد اللتيا والتي إلى الله بالتجريد والتزكية.
{ قال ربّ اغفر لي } ذنوب تعلقاتي وهيئاتي الساترة لنوري المظلمة المكدّرة لصفائي بنورك { وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } أي: كمالاً خالصاً باستعدادي يقتضيه هويتي لا ينبغي لغيري لاختصاصه به وهو الغاية التي يمكنه بلوغها { إنك أنت الوهَاب } لجميع الاستعدادات وكل ما سئلت من الكمالات كما قال تعالى:
{ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم: الآية: 34].