خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
-يونس

روح البيان في تفسير القرآن

{ ان ربكم الله الذي } خطاب لكفار مكة اى مربيكم ومدبر اموركم { خلق السموات والارض } التي هي اصول الممكنات وجسام الاجسام فان قيل الموصولات موضوعة لان يشار بها الى ما يعرفه المخاطب باتصافه بمضمون الصلة والعرب لا يعلمون كونه تعالى خالق السموات والارض. اجيب بان ذلك امر معلوم مشهور عند اهل الكتاب والعرب كانوا يتخالطون معهم فالظاهر انهم سمعوه منهم فحسن هذا التعريف لذلك. قال في ربيع الابرار تفكروا ان الله خلق السموات سبعا والارضين وثخانة كل ارض خمسمائة عام وثخانة كل سماء خمسمائة عام وما بين كل سماء خمسمائة عام وفي السماء السابعة بحر عمقه مثل ذلك كله فيه ملك لم يتجاوز الماء كعبه { في ستة ايام } اي في ستة اوقات فان اصل الايام هو يوم الآن المشار اليه بقوله تعالى { { كل يوم هو في شأن } وهو الزمن الفرد الغير المنقسم وسمى يوما لان الشان يحدث فيه فبالآن تتقدر الدقائق وبالدقائق تتقدر الدرج وبالدرج تتقدر الساعات وبالساعات يتقدر اليوم فاذا انبسط الآن سمى اليوم واذا انبسط اليوم سمى اسابيع وشهورا وسنين ادوارا فيوم كالآن وهو ادنى ما يطلق عليه الزمان ومنه يمتد الكل ويوم كالف سنة وهو يوم الآخرة ويوم كخمسين الف سنة وهو يوم القيامة اي ادنى مقدار ستة ايام لان اليوم عبارة عن زمان مقدر مبدأه طلوع الشمس ومنتهاه غروبها فكيف تكون حين لا شمس ولا نهار لخلقها في اقل من لحظة لكنه اشار الى التأني في الامور فلا يحسن التعجيل الا في التوبة وقضاء الدين وقرى الضيف وتزويج البكر ودفن الميت والغسل من الجنابة: وفي المثنوى

مكر شيطانست تعجيل وشتاب خوى رحمانست صبر واحتساب
با تأنى كشت موجود از خدا تابشش روز اين زمين وجرخها
ورنه قادر بود كز كن فيكون صد زمين وجرخ آوردى برون
اين تأنى از بى تعليم تست طلب آهسته بايد بى شكست

وقد جاء في الصحيح (ان الله خلق التربة) يعني الارض (يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الاحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر الى الليل) فان قيل القرآن يدل على ان خلق الاشياء في ستة ايام والحديث الصحيح المذكور على انها سبعة. فالجواب ان السموات والارض وما بينهما خلق في ستة ايام وخلق آدم من الارض فالارض خلقت في ستة ايام وآدم كالفرع من بعضها كما في فتح القريب. والحكمة في تأخير خلق آدم ليكون خليفة في الارض لان الاشياء قبله بمنزلة الرعية في مملكة الكون ولا يكون خليفة الا بالجنود والرعية فتقدم الرعية على الخليفة تشريف وتكريم للخلافة. واعلم ان اول فلك دار بالزمان قلب الميزان وفيه حدثت الايام دون الليل والنهار فكان اول حركته بالزمان واما حدوث الليل والنهار فبحدوث الشمس في السماء الرابعة ودورانها على طريقة واحدة من الشرق الى الغرب كذا في عقله المتوفز واول المخلوقات من الايام هو يوم الاحد فالأحد فيه بمعنى الاول فلما اوجد الله الثاني سمى الاثنين لانه ثاني يوم الاحد واول الايام التي خلق فيها الخلق السبت وآخر الايام الستة اذا الخميس فالجمعة سابع والسبت بمعنى الراحة زعم اليهود انه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق من خلق السموات والارض وما فيهن وكذبوا لقوله تعالى { { وما مسنا من لغوب } اي اعياء فيكون اول الاسبوع عندهم يوم الاحد وكذا عند النصارى ولذا اختاروه. وقد "سئل عليه السلام عن يوم السبت فقال يوم مكر وخديعة" لان قريشا مكرت فيه في دار الندوة ولا يقطع فيه اللباس يوم السبت والاحد والثلاثاء. قال حضرة الشيخ صدر الدين القنوى قدس سره الملابس اذا فصلت وخيطت في وقت رديئ اتصل بها خواص رديئ وكذا الامر في باب المآكل والمشارب وكذلك ما ورد التنبيه عليه في الشريعة من شؤم المرأة والفرس والدار وشهدت بصحته التجارب المكررة فان لجميع هذه في بواطن اكثر الناس بل وفي ظواهرهم ايضا خواص مضرة تتغذى من بدن المغتذى والمباشر والمصاحب الى نفسه واخلاقه وصفاته فيحدث بسببها للقلوب والارواح تلويثات هي من اقسام النجاسات وقد نبهت الشريعة على كراهتها دون الحكم عليها بالحرمة. وسئل حضرة مولانا قدس سره عما ورد (بارك الله في السبت والخميس) فقال بركتهما لوقوعهما جارين ليوم الجمعة "وسئل عليه السلام عن يوم الاحد فقال يوم غرس وعمارة" لان الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها وفي رواية (بنيت الجنة فيه وغرست) "وسئل عن يوم الاثنين فقال يوم سفر وتجارة " لان فيه سافر شعيب فربح في تجارته "وسئل عن يوم الثلاثاء فقال يوم دم " لان فيه خاضت حواء وقتل ابن آدم اخاه وقتل فيه جرجيس وزكريا ويحيى ولده وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بني اسرائيل "ونهى النبي عليه السلام عن الحجامة يوم الثلاثاء اشد النهى وقال فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم" اي لا ينقطع اذا احتجم او فصد وربما يهلك الانسان بعد انقطاع الدم (وفيه نزل ابليس الى الارض وفيه خلقت جهنم وفيه سلط الله ملك الموت علىارواح بني آدم وفيه ابتلى ايوب). وقال بعضهم ابتلى يوم الاربعاء. قيل كان الرسم في زمن ابي حنيفةرحمه الله ان يوم البطالة يوم السبت في القراءة لا يقرا في يوم السبت ثم في زمن الخصاف كان مترددا بين الاثنين والثلاثاء ومات الخصاف ببغداد سنة احدى وستين ومائتين. يقول الفقير ثم صار يوم البطالة يوم الثلاثاء والجمعة واستمر الى يومنا هذا في اكثر البلاد. وكان شيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة يعد الدرس فيهما افراطا ويقول يعرض للانسان من الاشتغال فتور وانقباض فلا بد من يوم البطالة ليصل نشاط وانبساط لئلا ينقطع الطالب عن تحصيل المطلوب ومن هنا ابيح ورخص التفرج والتبسط احيانا ولو للسالك. وسئل عن يوم الاربعاء قال (يوم نحس) لان فيه اغرق فرعون وقومه واهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح ونهى فيه عن قص الاظفار لانه يورث البرص وكره بعضهم عيادة المريض يوم الاربعاء. وفي منهاج الحليمي ان الدعاء مستجاب يوم الاربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر لانه عليه السلام استجيب له الدعاء على الاحزاب في ذلك اليوم في ذلك الوقت قيل يحمد فيه الاستحمام. وذكر انه ما بدئ شيء يوم الاربعاء الا وقد تم فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه وكان صاحب الهداية يتوقف في ابتداء الامور على الاربعاء ويروي هذا الحديث ويقول هكذا كان يفعل ابي ويرويه عن شيخه احمد بن عبد الرشيد. وسئل عليه السلام عن يوم الخميس (فقال يوم قضاء الحوائج والدخول على السلطان) لان فيه دخل ابراهيم عليه السلام على ملك صر فقضى حاجته واهدى اليه هاجر. وسئل عن يوم الجمعة فقال (يوم نكاح) نكح فيه آدم وحواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس ونكح عليه السلام خديجة وعائشة رضي الله عنهما وعن ابن مسعود رضي الله عنه من قلم اظفاره يوم الجمعة اخرج الله من داء وادخل فيه الشفاء { ثم استوى على العرش } قال في التبيان ثم في كتاب الله تعالى على خمسة اوجه. الوجه الاول اتت عاطفة مرتبة وهو قوله { { ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } }. والوجه الثاني بمعنى قبل وهو قوله { { ثم استوى على العرش } معناه قبل ذلك استوى على العرش لان قوله تعالى وكان عرشه على الماء يدل على ان وجود العرش سابق على تخليق السموات والارض ومثله (ثم ان مرجعهم لالى الجحيم) معناه قبل ذلك مرجعهم ومثله قول الشاعر

قل لمن ساد ثم ساد ابوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

والوجه الثالث بمعنى الواو وهو قوله { { ثم كان من الذين آمنوا } معناه ومع ذلك كان من الذين آمنوا. والرابع بمعنى الابتداء وهو قوله { { الحمد لله الذي خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معناه تعجبوا منهم كيف يفكرون بربهم انتهى بزيادة. يقول الفقير ثم ههنا لتفخيم شان منزلة العرش وتفضيله على السموات والارض لا التراخى في الوقت كما ذهبوا اليه عند قوله تعالى { { ثم استوى الى السماء } في اوائل سورة البقرة فلا حاجة الى التأويل. واعلم ان الافلاك تسع طبقات بعضها فوق بعض والفلك المحيط وهو العرش محيط بها كلها وكذلك جسم الانسان خلق من تسعة جواهر بعضها فوق بعض ليكون جسم الانسان مشاكلا للافلاك بالكمية والكيفية وهي اي الجواهر المخ والعظام والعصب والعروق وفيها الدم واللحم والجلد والشعر والظفر وهو اي العرش اول الموجود الجسماني كما ان روح نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم اول الموجود الروحاني وهو من ياقوتة حمراء وله الف شرفة وفي كل شرفة الف عام مثل ما في الدنيا باسرها. قال ابن الشيخ ومعنى الاستواء عليه الاستيلاء عليه بالقهر ونفاذ التصرف فيه وخص العرش بالاخبار عن الاستواء عليه لكونه اعظم المخلوقات فيفيد انه استولى على ما دونه. قال الحدادى ودخلت ثم على الاستواء وهي في المعنى داخلة على التدبير كأنه قال ثم { يدبر الامر } وهو مستو على العرش فان تدبير الامور كلها ينزل من عند العرش ولذا ترفع الايدي في دعاء الحوائج نحو العرش. قال القاضي يدبر الامر اي يقدر امر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيئ بتحريكه اسبابها وينزلها منه والتدبير والنظر في ادبار الامور لتجيئ محمود العاقبة. وعن عمرو بن مرة يدبر امر الدنيا بامر الله اربعة. جبرائيل وميكائيل وملك الموت واسرافيل. اما جبرائيل فعلى الرياح والجنود. واما ميكائيل فعلى القطر والنبات. واما ملك الموت فعلى الانفس. واما اسرافيل فينزل عليهم ما يؤمرون بهم. قال في التأويلات النجمية { خلق السموات والارض } في عالم الصورة وهو العالم الاكبر { في ستة ايام } من انواع ستة وهي الافلاك والكواكب والعناصر والحيوان والنبات والجماد { ثم استوى على العرش } والعرش جسماني روحاني ذو جهتين جهة منه تلى العالم الروحاني وجهة منه تلى العالم الجسماني { يدبر الامر } لفيضان فيض رحمانية على العرش فانه اول قابض لفيض الرحمانية وهذا احد تفاسير الرحمن على العرش استوى ثم من العرش ينقسم الفيض فانه مقسم الفيض فيجري في مجاري جعلها الله من العرش الى ما دونه من المكونات وانواع المخلوقات فبذلك الفيض تدور الافلاك كما تدور الرحى بالماء به تؤثر الكواكب وبه تولد العناصر وتظهر خواصه وبه يتولد الحيوان ذا حس وحركة وبه ينبت النبات ذا حركة بلا حس وبه تغير المعادن بلا حس ولا حركة. وفيه اشارة اخرى { ان ربكم الله الذي } يربيكم هو الذي { خلق السموات } سموات ارواحكم { والارض } ارض نفوسكم في عالم المعنى وهو العالم الاصغر { في ستة ايام } اي من ستة انواع وهي الروح والقلب والعقل والنفس التي هي الروح الحيواني والنفس النباتية التي هي النامية وخواص المعادن وهي في الانسان قوة قابلة لتغير الاحوال والاوصاف والالوان { ثم استوى على العرش } على عرش القلب { يدبر الامر } امر السعادة والشقاوة ويهيء اسبابهما من الاخلاق والاحوال والاعمال والافعال والاقوال والحركات والسكنات والى هذا يشير قوله (قلوب العباد بيدى الله يقلبها كيف يشاء) { ما من شفيع } يشفع لاحد في وقت من الاوقات { الا من بعد اذنه } المبنى على الحكمة الباهرة وهو جواب قول الكفار ان الاصنام شفعاؤنا عند الله فبين الله تعالى انه ما من ملك مقرب ولا نبى مرسل يشفع لاحد الا من بعد ان يأذن الله لمن يشاء ويرضى فكيف تشفع الاصنام التي ليس لها عقل ولا تمييز وفيه اثبات الشفاعة لمن اذن له { ذلكم } اى ذلك التعظيم الشان المنعوت بما ذكر من نعوت الكمال والاشارة محمولة على التجوز لاستحالة تعلق الاحساس بالله تعالى. قال في البهجة واما نحو تلك الجنة فذلك لصيرورتها كالمشاهد بمعرفة اوصافها { الله } خبر ذلكم ويجوز ان يكون صفة على ان الخبر ما بعده كما قال الكاشفي [آن خداوئدى كه موصوف است بصفات خلق وتدبير واستيلاء { ربكم } [بروردكار شماست نه غيراو] اذ لا يشاركه احد في شيء من ذلك. قال المولى ابو السعودرحمه الله ربكم بيان له او بدل منه او خبر ثان لاسم الاشارة { فاعبدوه } وحده ولا تشركوا بعض خلقه من ملك او انسان فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع { افلا تذكرون } تتفكرون فان ادنى التفكر والنظر ينبهكم علىانه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه