خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
-النحل

روح البيان في تفسير القرآن

{ ثم ان ربك } قال قتادة ذكر لنا انه لما انزل الله تعالى ان اهل مكة لا يقبل منهم الاسلام حتى يهاجروا كتب بها اهل المدينة الى اصحابهم من اهل مكة فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزل { ألم احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } فكتبوا بها اليهم فتبايعوا بينهم على ان يخرجوا فان لحقهم المشركون من اهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله فادركهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فانزل الله تعالى هذه الآية كذا فى اسباب النزول للواحدى. وثم للدلالة على تباعد رتبة حالهم عن رتبة حالهم التى يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب بطريق الاشارة لا عن رتبة حال الكفرة كذا فى الارشاد { للذين هاجروا } الى دار الاسلام وهم عمار وصهيب وخباب وسالم وبلال ونحوهم. واللام متعلقة بالخبر وهو الفغور على نية التأخير وان الثانية تأكيد للاولى لطول الكلام { من بعد ما فتنوا } اى عذبوا على الارتداد واكرهوا على تلفظ كلمة الكفر فتلفظوا بما يرضيهم اى الكفرة مع اطمئنان قلوبهم { ثم جاهدوا } فى سبيل الله { وصبروا } على مشاق الجهاد { ان ربك من بعدها } من بعد المهاجرة والجهاد والصبر { لغفور } بما فعلوا من قبل اى لستور عليهم محاء لما صدر منهم { رحيم } منعم عليهم من بعد بالجنة جزاء على تلك الافعال الحميدة والخصال المرضية.
واعلم ان المهاجرة مفاعلة من الهجرة وهى الانتقال من ارض الى ارض والمجاهدة مفاعلة من الجهد وهو استفراغ الوسع وبذل المجهود وقال فى التعريفات المجاهدة فى اللغة المحاربة وفى الشرع محاربة النفس الامارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها مما هو مطلوب فى الشرع انتهى.
وكل من المهاجرة الصورية والمعنوية وكذا المجاهدة مقبولة مرضية اذ من كان فى ارض لا يقيم فيها شعائر دينه واهلها ظالمون فهاجر منها لدينه ولو شبرا وجبت له الجنة ومن فارق موطن النفس والمألوفات وحارب الاعداء الباطنة وجبت له القربة ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهدا.
وعن عمر بن الفارض قدس سره انه حضر جنازة رجل من اولياء الله تعالى قال فلما صلينا عليه امتلأ الجو بطيور خضر فجاء طير كبير فابتعله ثم طار فتعجبت فقال لى رجل كان قد نزل من السماء وحضر الصلاة لا تتعجب فان ارواح الشهداء فى حواصل الطيور خضر ترعى فى الجنة اولئك شهداء السيوف واما شهداء المحبة فاجسادهم ارواح اذ آثار الارواح اللطيفة تسرى الى الاجساد فتحصل اللطافة لها ايضا ولذا لا تبلى اجساد الكمل ولا بد لمن اراد ان يصل الى هذه الرتبة ويحيى حياة ابدية من ان يميت نفسه الامارة ويزكيها عن سفساف الاخلاق ورذائل الاوصاف كالكبر والعجب والرياء والغضب والحسد وحب المال وحب الجاه يقال ان الدركات السبع للنار مقابلة هذه الصفات السبع للنفس فالخلاص من هذه الصفات سبب الخلاص من تلك الدركات: قال الشيخ سعدى قدس سره

ترا شهوت وكبر وحرص وحسد جوخون درركندو جوجان درجسد
كر اين دشمنان تقويت يا فتند سراز حكم ورأى تو بر تافتند
تو بر كره توسنى در كمر نكر تانييجد ز حكم توسر
اكر بالهنك از كفت در كسيخت تن خويشتن كشت وخون توريخت

ثم ان الله تعالى غفور من حيث الافعال يتجلى لاهل التزكية من مرتبة توحيد الافعال وغفور من حيث الصفات يتجلى لهم من مرتبة التوحيد الصفات وعفور من حيث الذات يتجلى لهم من مرتبة تويحد الذات فيستر افاعلهم وصفاتهم وذواتهم وينعم عليهم بآثار افعاله وانوار صفاته واسرار ذاته فيتخلصون من الفانى ويصلون الى الباقى ويجدون ثمرات المجاهدات وهى المشاهدات ونتائج المفارقات وهى المواصلات وعواقب المعاقبات وهى التنعم فى الجنات العاليات والاستراحة الدائمة فى مقامات القربات اللهم اعنا على سلوك سبيل الهجرة والصبر والجهاد واحفظنا من فتنة اهل البغى والفساد انك انت الاهل للاعانة والامداد.