خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
١٧١
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ومثل } واعظ { الذين كفروا } وداعيهم الى الحق { كمثل } الراعى { الذى ينعق } نعق الراعى والمؤذن بعين مهملة صوت وبالمعجمة نغق للغراب والمعنى يصوت { بما لا يسمع } وهو البهائم اى لا يدرك بالاستماع { الا دعاء } صوتا من الناعق { ونداء } زجرا مجردا من غير فهم شىء آخر وحفظه كما يفهم العاقل ويجيب.
قيل الفرق بين الدعاء والنداء ان الدعاء للقريب والندا للبعيد ويحتمل ان يكون الدعاء اعم من النداء والتشبيه المذكور فى الآية من قبيل التشبيه المفرق شبه داعى الكافر بالناعق ونفس الكفرة بالبهائم المنعوق بها ودعاء داعى الكفرة بنعيق الناعق بالبهائم والمعنى مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا فى وعظهم ودعائهم الى الله وعدم اهتدائهم كمثل الراعى الذى يصيح بالغنم ويكلمها ويقول كلى واشربى وارعى وهى لا تفهم شيأ مما يقول لها كذلك هؤلاء الكفار كالبهائم لا يعقلون عنك ولا عن الله شيأ { صم } اى هم صم يعنى كأنهم يتصاممون عن سماع الحق { بكم } بمنزلة الخرس فى ان لم يستجيبوا لما دعوا اليه { عمى } بمنزلة العمى من حيث اعراضهم عن الدلائل كأنهم لم يشاهدوها ثم انه تعالى لما شبههم بفاقدى هذه القوى الثلاث التى يتوسل بها الى تمييز الحق من الباطل واختيار الحق فرع على هذا التشبيه قوله { فهم لا يعقلون } اى لا يكتسبون الحق بما جبلوا عليه من العقل الغريزى لان اكتسابه انما يكون بالنظر والاستدلال ومن كان كالاصم والاعمى فى عدم استماع الدلائل ومشاهدتها كيف يستدل على الحق ويعقله ولهذا قيل من فقد حسا فقد فقد علما وليس المراد نفى اصل العقل لان نفيه رأسا لا يصلح طريقا للذم وهكذا لا ينفع الوعظ فى آخر الزمان لان آذان الناس مسدودة عن استماع الحق واذهانهم مصدودة عن قبوله: ونعم ما قال السعدى

فهم سخن جون نكند مستمع قوت طبع از متكلم مجوى
فسحت ميدان ارادت بيار تابزند مرد سخن كوى كوى

وفى قوله تعالى { { أولو كان آباؤهم } [البقرة: 170] الآية.
اشارة الى قطع النظر عن الاسلاف السوء واتباع اهل الاهواء المختلفة والبدع الذين لا يعقلون شيأ من طريق الحق وضلوا فى تيه محبة الدنيا ويدعون انهم اهل العلم وليسوا من اهله اتخذوا العلم مكسبا للمال والجاه وقطعوا الطريق على اهل الطلب قال تعالى فى بعض الكتب المنزلة [لا تسألن عن عالم قد اسكره حب الدنيا فاولئك قطاع الطريق على عبادى] فمن كان على جادة الحق وصراط الشريعة وعنده معرفة سلوك مقامات الطريقة يجوز الاقتداء به اذ هو من اهل الاهتداء الى عالم الحقيقة دون مدعى الشيوخة بطريق الارث من الآباء ولاحظ لهم من طريق الاهتداء فانهم لا يصلحون للاقتداء: قال السعدى

جو كنعانرا طبيعت بى هنربود بيمبر زادكى قدرش نيفزود
هنر بنماى اكردارى به كوهر كل ازخارست وابراهيم از آزر

وفى التأويلات النجمية ان { مثل الذين كفروا } كان فى عالم الارواح عند الميثاق اذ خاطبهم الحق بقوله ألست بربكم { كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء } لانهم كانوا فى الصف الاخير اذ الارواح كانوا جنودا مجندة فى اربعة صفوف فكان فى الصف الاول ارواح الانبياء عليهم السلام وفى الثانى ارواح الاولياء وفى الثالث ارواح المؤمنين وفى الرابع ارواح الكافرين فاحضرت الذرات التى استخرجت من ظهر آدم من ذرياته واقيمت كل ذرة بازاء روحها فخاطبهم الحق ألست بربكم فالانبياء سمعوا كلام الحق كفاحا بلا واسطة وشاهدوا انوار جماله بلا حجاب ولهذا استحقوا ههنا النبوة والرسالة والمكالمة والوحى الله اعلم حيث يجعل رسالته والاولياء سمعوا كلام الحق وشاهدوا انوار جماله من انوار حجاب ارواح الانبياء ولهذا ههنا احتاجوا لمتابعة الانبياء فصاروا عند القيام باداء حق متابعتهم مستحقى الالهام والكلام من وراء الحجاب والمؤمنون سمعوا خطاب الحق من وراء حجاب الانبياء وحجاب ارواح الاولياء ولهذا آمنوا بالغيب وقبلوا دعوة الانبياء وان بلغتهم من وراء حجاب رسالة جبريل وحجاب رسالة الانبياء فقالوا سمعنا واطعنا ومما يدل على هذه التقريرات قوله تعالى { { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } [الشورى: 51] يعنى الاولياء { { أو يرسل رسولا } [الشورى: 51].
يعنى المؤمنين والكفار لما سمعوا من الخطاب نداء من وراء الحجب الثلاثة كانوا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء فما شاهدوا من انوار كمال الحق لا قليلا ولا كثيرا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وما فهموا شيأ من كلام الحق الا انهم سمعوا من ذرات المؤمنين من وراء الحجاب لما قالوا بلى فقالوا بالتقليد ولهذا ههنا قلدوا ما الفوا عليه آباءهم لقوله تعالى
{ { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [الزخرف: 23].
فلما تعلقت ارواحهم بالاجساد وتكدرت بكدورات الحواس والقوى النفسانية واظلمت بظلمات الصفات الحيوانية وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من التمتعات البهيمية والاخلاق الشيطانية واللذات الجسمانية اصمهم الله واعمى ابصارهم فهم الآن { صم } عن استماع دعوة الانبياء بسمع القبول { بكم } عن قول الحق والاقرار بالتوحيد { عمى } عن رؤية آيات المعجزات { فهم لا يعقلون } ابدا لانهم ابطلوا بالرين صفاء عقولهم الروحانية وحرموا من فيض الانوار الربانية: قال الصائب

جرا زغير شكايت كنم كه همجو حباب هميشه خانه خراب هواى خوبشتنم

وفى المثنوى:

كرجه ناصح را بود صد داعيه بندرا اذنى ببايد واعيه
توبصد تلطيف بنداش ميدهى اوزبندت ميكند بهلوتهى
يك كس نامستمع زاستيزورد صدكس كوينده را عاجز كند
زانبيا ناصح تر وخوش لهجة تر كى بودكه رفت دمشان درحجر
زانجة كوه وسنك دركار آمدند مى نشد بد بخت رابكشاده بند
آنجنان دلها كه بدشان ما ومن نعتشان شد بل اشد قسوة

فعلى العاقل ان يتدارك حاله بسلوك طريق الرضى والندم على مضى ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ويصفى قلبه الى ان تنعكس اليه انوار الملك الخلاق وذلك لا يحصل غالبا الا بتربية كامل من اهل التحقيق لان المرء محجوب عن ربه وحجابه الغفلة وهى وان كانت لا ترفع ولا تزول الا بفضل الله تعالى لكنه باسباب كثيرة ولا اهتداء الى علاج المرض الا باشارة حكيم حاذق وذلك هو المرشد الكامل فاذا يزول الرين عن القلب وتنفتح روزنة البال الى الغيب فيكون اقرار السالك تحقيقا لا تقليدا وتوحيده تجريدا وتفريدا فحينئذ يعكس الامر فيكون اصم عن سماع اخبار ما سوى المحبوب الحقيقى ابكم عن افشاء سر الحقيقة اعمى عن رؤية الاغيار فى هذه الدار الفانية اللهم خلصنا من التقليد واوصلنا الى حقيقة التوحيد انك حميد مجيد.