خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٤٤
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ أتأمرون الناس } الخطاب لليهود والأمر القول لمن دونك والمراد بالناس سفلتهم { بالبر } أي الاعتراف بالنبي واتباع الأدلة وهو التوسع في الخير من البر الذي هو الفضاء الواسع والهمزة تقرير مع توبيخ وتعجيب { وتنسون أنفسكم } وتتركونها من البر كالمنسيات لان اصل السهو والنسيان الترك الا ان السهو يكون لما علمه الانسان ولما لم يعلمه والنسيان لما عزب بعد حضوره كانوا يقولون لفقرائهم الذين لا مطمع لهم فيهم بالسر آمنوا بمحمد فانه حق وكانوا يقولون للاغنياء ترى فيه بعض علامات نبي آخر الزمان دون بعض فانتظروا الاستيفاء لما ينالون منهم ويؤخرون امور انفسهم فلا يتبعونه في الحال مع عزيمتهم ان يتبعوه يوما وكذا حال من تمادى في العصيان وهو يقول اتوب عند الكبر والشيب وربما يفجأه الموت فيبقى في حسرة الفوت: قال الحافظ

ديدى آن قهقهه كبك خرامان حافظ كه زسر نجه شاهين قضا غافل بود

{ وأنتم تتلون الكتاب } اى والحال انكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته صلى الله تعالى عليه وسلم الآمرة بالايمان به { أفلا تعقلون } اي ليس لكم عقل تعرفون به انه قبيح منكم عدم اصلاح انفسكم والاشتغال بغيركم.
والعقل في الاصل المنع والامساك ومنه العقال الذي يشد به وظيف البعير الى ذراعيه لحبسه عن الحراك سمى به النور الروحانى الذى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية لانه يحبس عن تعاطى ما يقبح ويعقل على ما يحسن ومحله الدماغ لان الدماغ محل الحس وعند البعض محله القلب لان القلب معدن الحياة ومادة الحواس وعند البعض هو نور في بدن الآدمى.
ثم هذا التوبيخ ليس على امر الناس بالبر بل لشرك العمل به فمدار الانكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة وهى جملة تنسون انفسكم دون ما عطفت هي عليه وهي اتأمرون الناس بالبر ولا يستقيم قول من لا يجوز الامر بالمعروف لمن لا يعمل به لهذه الآية بل يجب العمل به ويجب الامر به وقد قال عليه السلام
"مروا بالمعروف وان لم تعملوا به وانهوا عن المنكر وان لم تنتهوا عنه" وهذا لانه اذا امر به مع انه لا يعمل به فقد ترك واجبا واذا لم يأمر به قد ترك واجبين فالامر بالحسن حسن وان لم يعمل به ولكن قلما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه ومن امر بخير فليكن اشد الناس مسارعة اليه ومن نهى عن شيء فليكن اشد الناس انتهاء عنه. وهذه الآية كما ترى ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوء صنيعه وعدم تأثره وان فعله فعل الجاهل بالشرع او الاحمق الخالى عن العقل والمراد به حث الواعظ على تزكية النفس والاقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحق وتقيم غيرها لامنع الفاسق من الوعظ فان الاخلال باحد الامرين المأمور بهما لا يوجب الاخلال بالآخر ـ يروى ـ انه كان عالم من العلماء مؤثر الكلام قوى التصرف فى القلوب وكان كثيرا ما يموت من اهل مجلسه واحدا واثنان من شدة تأثير وعظه وكان في بلده عجوز لها ابن صالح رقيق القلب سريع الإِنعفال وكانت تحترز عليه وتمنعه من حضور مجلس الواعظ فحضره يوما على حين غفلة منها فوقع من امر الله تعالى ما وقع ثم ان العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق فقالت

أتهدى الانام ولا تهتدى الا ان ذلك لا ينفع
فيا حجر الشحذ حتى متى تسن الحديد ولا تقطع

فلما سمعها الواعظ شهق شهقة فخر من فرسه مغشيا عليه فحملوه الى بيته فتوفى الى رحمة الله تعالى: قال الحافظ

واعظان كين جلوه در محراب ومنبر ميكنند جون بخلوت ميروند آن كار ديكر ميكنند
مشكلى دارم زدانشمند مجلس باز برس توبه فرمايان جراخود توبه كمتر ميكنند

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليلة أسرى بى مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الخطباء من امتك يأمرون الناس بالبر وينسون انفسهم يجزون نصيبهم في نار جهنم فيقال لهم من انتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى انفسنا" .
قال الاوزاعى شكت النواويس الى الله تعالى ما تجده من جيف الكفار فاوحى الله اليها بطون العلماء السوء أنتن مما انتم فيه. وفي الحديث "ما من عبد يخطب خطبة الا والله تعالى سائله عنها يوم القيامة مااراد بها" .
قال الشيخ افتاده افندى لو ان واعظا يرى نفسه خيرا من المستمعين يشكل الامر كذا اذا لم يكن من يصغى الى كلامه مساويا لمن يلطم على قفاه يشكل الامر فلذلك قال عليه السلام "كم من واعظ يلعب به الشيطان" اللهم الا ان يقول ينتفع منى المسلمون وان كنت معذبا في النار فهو نوع فناء لكن يخالف ان يجد حظه في ضمنه. وقال ايضا من كان يعظ الناس اما ان يعتقد انهم يعرفون ما يعرفه اويعتقد انهم لا يعرفون ما يعرفه فعلى الاول لا يحتاج الى وعظه وعلى الثانى قد اثبت لهم جهلا ولنفسه فضلا عليهم فهو محض كبر وبالجملة حيل النفس كثيرة لا تتيسر النجاة منها الا بمحض لطف الله تعالى وادنى الحال ان يلاحظ قوله عليه السلام "ان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاسق" .
فما دام لم يصل السالك الى الحقيقة لا يتخلص من الورطة قال عليه الصلاة والسلام "الناس كلهم سكارى الا العالمون" .
الحديث والمخلصون على خطر عظيم وانما الامن للمخلص بالفتح وهو الواصل الى التوحيد الحقيقى الفانى عن القهر والكرم الخارج عن حد الوجود والعدم وهو الفناء الكلى وهم الذين اريدوا بقوله تعالى { { ان عبادى ليس لك عليهم سلطان } [الحجر: 42].
ولا بد من رعاية الشريعة في جميع المراتب فان الكمال فيها والافهو ناقص ولذلك ان المجاذيب لايخلون عن النقصان ألايرى ان الانبياء عليهم السلام لم يسمع عن واحد منهم عروض السفه والجنون فالكامل في مرتبة الكمال يكون كامل العقل حتى يحس بصرير الباب في حال استغراقه اللهم اوصلنا الى الكمال.