خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ
١٣٧
هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
١٣٨
-آل عمران

روح البيان في تفسير القرآن

{ قد خلت من قبلكم سنن } اصل الخلو الانفراد والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل ايضا فى الزمان الماضى لان ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الامم الخالية والسنن الوقائع اى قد مضت من قبل زمانكم وقائع سنها الله فى الامم المكذبة اى وضعها طريقة يسلكها على وفق الحكمة فالمراد بسنن الله تعالى معاملات الله فى الامم المكذبة بالهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } { فسيروا فى الارض } اى ان شككتم فى ذلك فسيروا وليس المراد الامر بالمسافرة فى الارض بسير الاقدام لا محالة بل المقصود تعرف احوالهم فان حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ولعل اختيار لفظ سيروا مبنى على ان اثر المشاهدة اقوى من اثر السماع كما قيل ليس الخبر كالمعاينة وفى هذا المعنى قيل

ان آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا الى الآثار

{ فانظروا } بنظر العين والمشاهدة { كيف } خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة فى محل النصب بعد نزع الخافض لان الاصل استعماله بالجار { كان عاقبة المكذبين } رسلى واوليائى { هذا } اشارة الى ما سلف من قوله قد خلت الخ { بيان للناس } وهم المكذبون اى ايضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فان الامر بالسير والنظر وان كان خاصا بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين ايضا على ان ينظروا الى عواقب ما قبلهم من اهل التكذيب ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارهم وان لم يكن الكلام مسوقا لهم والبيان هو الدلالة على الحق فى أى معنى كان بازالة ما فيه من الشبهة { وهدى } اى زيادة بصيرة وهو مختص بالدلالة والارشاد الى طريق الدين القويم والصراط المستقيم ليتدين به ويسلك { وموعظة } وهو الكلام الذى يفيد الزجر عما لا ينبغى فى الدين { للمتقين } اى لكم والاظهار للايذان بعلة الحكم فان مدار كونه هدى وموعظة لهم انما هو تقواهم.
واعلم ان الامم الماضية خالفوا الانبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم اثر وبقى عليهم اللعن فى الدنيا والعقاب فى الآخرة فرغب الله تعالى امة محمد صلى الله عليه وسلم المصدقين فى تأمل احوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الانابة والاعراض عن الاغترار بالحظوظ الفانية واللذات المقتضية فان الدنيا لا تبقى مع المؤمن ولا مع الكافر فالمؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل فى الدنيا والثواب الجزيل فى العقبى والكافر بخلافه فاللائق ان يجتهد فيما هو خير وابقى ولا ينظر الى زخارف الدنيا. ثم فى هذا تسلية للمؤمنين فيما اصابهم يوم احد فان الكفار وان نالوا من المؤمنين بعض النيل لحكمة اقتضته فالعاقبة للمؤمنين قال تعالى
{ { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 171-172].
و
{ إن الأرض يرثها عبادى الصالحون } [الأنبياء: 105].
ولو كانت الغلبة كل مرة للمؤمنين لصار الايمان ضروريا وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة الآلهية. فعلى العاقل ان يفوض الامر الى الله ويعتبر بعين البصيرة فى الامور الخفية والجلية وقد قال الله تعالى
{ { فاعتبروا يا أولى الابصار } [الحشر: 2].

نرود مرغ سوى دانه فراز جون دكر مرغ بيند اندر بند
بندكير ازمصائب دكران تانكيرند ديكران زتو بند

والخوف من العاقبة من الصفات السنية للصلحاء ـ روى ـ انه يعذب الرجل فى النار الف سنة ثم يخرج منها الى الجنة قال الحسن البصرىرحمه الله يا ليتنى كنت ذلك الرجل وانما قال الحسن ذلك لانه يخاف عاقبة امره وهكذا كان الصالحون يخافون عاقبة امرهم وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر ان يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبى على طاعتك" .
قالت عائشة رضى الله عنها يا رسول الله انك لتكثر القول بهذا الدعاء فهل تخشى قال صلى الله عليه وسلم "ما يؤمننى يا عائشة وقلوب العباد بين اصبعين من اصابع الرحمن فاذا اراد ان يقلب قلبا قلبه"
.قال السدى انى لأنظر فى المرآة كل يوم مرارا مخافة ان يكون قد اسود وجهى.
والاشارة فى الآيتين ان الله خص السائرين الى الله بالمهاجرة عن الاوطان والمسافرة الى البلدان بمقارقة الخلان والاخدان ومصاحبة الاخوان غير الخوّان ليعتبروا من سنن اهل لسنن فقال تعالى { قد خلت من قبلكم سنن } اى امم لهم سنن { فسيروا } على سنن اهل السنة { فى الارض } فى ارض نفوسكم الحيوانية بالعبور عن اوصافها الدنية واخلاقها الردية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية وتتخلقوا بالاخلاق الربانية { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } اى كيف صار حاصل امر النفوس الكذبة بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية عند الوصول اليها { هذا بيان للناس } اى لاهل الغفلة والغيبة الناسين عهد الميثاق { وهدى وموعظة للمتقين } اى وعيان لاهل الهداية والشهود الذاكرين للعهود الذين اتعظوا بالتجارب والتقوى عما سوى الله تعالى.
قال بعض العلماء يا مغرور امسك وقس يومك بامسك واتعظ بمن مضى من ابناء جنسك فانك بك قد خللت فى رسمك أين من اسخط مولاه بنيل ما يهواه أين من افنى عمره فى خطاياه فتذكر انت أيها الغافل مصارعهم وانظر مواضعهم هل نفعهم رفيق رافقوه او منعهم اما خلوا بخلالهم اما انفردوا باعمالهم فستصير فى مصيرهم فتدبر أمرك وستسكن فى مثل مساكنهم فاعمر قبرك يا مسرورا بمنزلة الرحب الانيق ستفارقه يا مشمئزا من التراب ستعانقه اعتبر بمن سبقك فانت لاحقه واذكر العهد الازلى فزك نفسك حياء من الله لعلك تصل الى ما تهواه من جنات وعيون ومقام كريم ووصال الى رب رحيم قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا } فماذا يقعدك عن رفقة الصالحين وهل ترضى لنفسك يا مسكين ان تقف فى مقام الجهال المعتدين اما علمت انك غدا تدان كما تدين اصلح الله احوالنا وصحح اقوالنا وافعالنا واعطانا آمالنا وختمنا بالخير اذا بلغنا آجالنا.