{ ان الذين توفاهم الملائكة } يحتمل ان يكون ماضيا فيكون اخبارا عن احوال قوم معينين انقرضوا ومضوا وان يكون مضارعا قد حذف منه احدى التاءين واصله تتوفاهم وعلى هذا تكون الآية عامة فى حق كل من كان بهذه الصفة والظاهر ان لفظ المضارع ههنا على حكاية الحال الماضية والقصد الى استحضار صورتها بشهادة كون خبر انّ فعلا ماضيا وهو قالوا والمراد بتوفى الملائكة اياهم قبض ارواحهم عند الموت والملك الذى فوض اليه هذا العمل هو ملك الموت وله اعوان من الملائكة واسناد التوفى الى الله تعالى فى قوله { { الله يتوفى الانفس } [الزمر: 42].
وفى قوله { { قل الله يحييكم ثم يميتكم } [الجاثية: 26].
مبنى على ان خالق الموت هو الله تعالى { ظالمى انفسهم } فى حال ظلمهم انفسهم بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للاخلال بامور الدين فانها نزلت فى ناس من مكة قد اسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة فانه تعالى لم يكن يقبل الاسلام بعد هجرة النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة الا بالهجرة اليها ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله عليه السلام "لا هجرة بعد الفتح" قال الله تعالى فيمن آمن وترك الهجرة { الذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا } وهو حال من ضمير توفاهم فانه وان كان مضافا الى المعرفة وحق الحال ان يكون نكرة الا ان اصله ظالمين انفسهم فتكون الاضافة لفظية { قالوا } اى الملائكة للمتوفين تقريرا لهم بتقصيرهم فى اظهار اسلامهم واقامة احكامه من الصلاة ونحوها وتوبيخا لهم بذلك { فيم كنتم } اى فى أى شىء كنتم من امور دينكم كأنه قيل فماذا قالوا فى الجواب فقيل { قالوا } متجانفين عن الاقرار الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم { كنا مستضعفين فى الارض } اى فى ارض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين اهلها { قالوا } ابطالا لتعللهم وتبكيتا لهم { ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها } الى قطر آخر منها تقدرون فيه على اقامة امور الدين كما فعله من هاجر الى المدينة والى الحبشة وقيل كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين الى بدر فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوههم وادبارهم وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعا لهم وتوبيخا لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة بانتظامهم فى عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللا بانهم كانوا مقهورين تحت ايديهم وانهم اخرجوهم اى الى بدر كارهين فرد عليهم بانهم كانوا بسبيل من الخلاص من قهرهم متمكنين من المهاجرة { فاولئك } الذين حكيت احوالهم الفظيعة { مأواهم } اى فى الآخرة { جهنم } كما ان مأواهم فى الدنيا دار الكفر لتركهم الواجب ومساعدتهم الكفار وكون جهنم مأواهم نتيجة لما قبله وهو الجملة الدالة على ان لا عذر لهم فى ذلك اصلا فعطف عليه عطف جملة على اخرى { وساءت مصيرا } مصيرهم جهنم { الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الاستثناء منقطع فان المتوفين ظالمين انفسهم اما مرتدون او عصاة بتركهم الهجرة مع القدرة عليها وهؤلاء المستضعفون اى المستذلون المقهورون تحت ايدى الكفار ليسوا بقادرين عليها فلم يدخلوا فيهم فكان الاستثناء منقطعا والجار والمجرور حال من المستضعفين اى كائنين منهم.
فان قلت المستثنى المنقطع وان لم يكن داخلا فى المستثنى منه لكن لا بد ان يتوهم دخوله فى حكم المستثنى منه ومن المعلوم ان لا يتوهم دخول الاطفال فى الحكم السابق وهو كون مأواهم جهنم فكيف ذكر فى عداد المستثنى. قلت للمبالغة فى التحذير من ترك الهجرة وايهام انها لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والاشعار بانه لا محيص لهم عنها البتة تجب عليهم اذا بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وان قوامهم يجب عليهم ان يهاجروا بهم متى امكنت { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } صفة للمستضعفين اذ لا توقيت فيه فيكون فى حكم المنكر واستطاعة الحيلة وجد ان اسباب الهجرة وما تتوقف عليه واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر اليه بنفسه او بدليل { فاولئك } اشارة الى ان المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز { عسى الله ان يعفو عنهم } ذكر بكلمة الاطماع ولفظ العفو ايذانا بان ترك الهجرة امر خطير حتى ان المضطر من حقه ان لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه { وكان الله عفوا غفورا } معنى كونه عفوا صفحه واعراضه عن العقوبة ومعنى كونه غفورا ستر القبائح والذنوب فى الدنيا والآخرة فهو كامل العفو تام الغفران: قال السعدى قدس سره
بس برده بيند عملهاى بد هم اوبرده بوشد ببالاى خود
وفى الآية الكريمة ارشاد الى وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من اقامة امور دينه بأى سبب كان.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم "من فر بدينه من ارض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجبت له الجنة وكان رفيق ابيه ابراهيم ونبيه محمد عليه السلام" .
قال الحدادى فى تفسيره فى قوله تعالى { ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها } دليل انه لا عذر لاحد فى المقام على المعصية فى بلده لاجل المال والولد والاهل بل ينبغى ان يفارق وطنه ان لم يمكنه اظهار الحق فيه ولهذا روى عن سعد بن جبير انه قال اذا عمل بالمعاصى بارض فاخرج منها
سعد يا حب وطن كرجه حديث است صحيح نتوان مرد بسختى كه من انيجاز آدم
والاشارة فى الآية ان المؤمن عام وخاص وخاص الخاص كقوله { { فمنهم ظالم لنفسه } [فاطر: 32].
وهو العام { { ومنهم مقتصد } [فاطر: 32].
وهو الخاص { { ومنهم سابق بالخيرات } [فاطر: 32].
وهو خاص الخاص { فالذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم } هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدسيتها من غير تزكيتها عن اخلاقها الذميمة وتحليتها بالاخلاق الحميدة ليفلحوا فخابوا وخسروا كما قال تعالى { قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها } { قالوا فيم كنتم } اى قالت الملائكة حين قبضوا ارواحهم فى أى غفلة كنتم تضيعون اعماركم وتبطلون استعدادكم الفطرى وفى أى واد من اودية الهوى تهيمون وفى أى روضة من رياض الدنيا كنتم تؤثرون الفانى على الباقى وتنسون الطهور والساقى واخوانكم يجاهدون فى سبيل الله باموالهم وانفسهم ويهاجرون عن الاوطان ويفارقون الاخوان والاخدان { قالوا كنا مستضعفين فى الارض } اى عاجزين فى استيلاء النفس الامارة وغلبة الهوى مأسورى الشيطان فى حبس البشرية { قالوا ألم تكن ارض الله } اى ارض القلب { واسعة فتهاجروا فيها } فتخرجوا من مضيق ارض البشرية فتسلكوا فى فسحة عالم الروحانية بل تطيروا فى هواء الهوية { فاولئك } يعنى ظالمى أنفسهم { مأواهم جهنم } البعد عن مقامات القرب { وساءت مصيرا } جهنم البعد لتاركى القرب والمتقاعدين عن جهاد النفس { الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الذى صفتهم { لا يستطيعون حيلة } فى الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال ولا على قهر النفس وغلبة الهوى ولا على قمع الشيطان فى طلب الهدى { ولا يهتدون سبيلا } الى صاحب ولاية يتمسكون بعروته الوثقى ويعتصمون بحبل ارادته فى طلب المولى فيخرجهم من ظلمات ارض البشرية الى نور سماء الربوبية على اقدام العبودية وهم المقتصدون المشتاقون ولكنهم بحجب الانانية محجوبون ومن شهود جمال الحق محرومون فعذرهم بكرمه ووعدهم رحمته وقال { فاولئك عسى الله ان يعفو عنهم } السكون عن الله والركون الى غير الله { وكان الله } فى الازل { عفوا } ولعفوه امكنهم التقصير فى العبودية { غفورا } ولغفرانه امهلهم فى اعطاء حق الربوبية كذا فى التأويلات النجمية.