خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٥
إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ
٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلْحَيٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ
٧
أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨
-يونس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "ضياء": مفعول ثان، أي: ذات ضياء، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط، والياء منقلبة عن الواو، وفي رواية عن ابن كثير بهمزتين في كل القرآن على القلب، بتقديم اللام على العين، والضمير في "قدره" للشمس والقمر، كقوله: { { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 26]، أو للقمر فقط.
يقول الحق جل جلاله: { هو الذي جعل الشمس ضياء } أي: ذات ضوء وإشراق أصلي، { والقمرَ نوراً } أي: ذا نور عارض، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها، ولذلك يزيد نوره وينقص، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نوراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، فالنور أعم من الضياء، والضياء أعظم من النور. { وقدَّره منازلَ } أي: قدر سير كل واحد منهما منازل، أو القمر فقط، وخصصه بالذكر لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله: { لتعلموا عددَ السنينَ والحسابَ } أي: حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي في معاملتكم وتصرفاتكم:
{ ما خلق اللَّهُ ذلك } الذي تقدم من أنواع المخلوقات { إلا بالحق } أي: ملتبساً بالحق، مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثاً عارياً عن الحكمة، أو ما خلق ذلك إلا ليُعرف فيها، فما نُصب الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الحق الذي خلق الله به كل شيء كلمة "كن". قال سبحانه:
{ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ } [الأنعام: 73] . هـ. وهو بعيد هنا.
{ نُفَصِّلُ الآياتِ لقوم يعلمون } فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
ثم بيَّن وجه الاعتبار فقال: { إن في اختلاف الليل والنهار } أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو بالزيادة والنقصان، { وما خلق اللهُ في السموات والأرض } من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات، { لآياتٍ } دالة على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، { لقوم يتقون } الله، ويخشون العواقب، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، بخلاف المنهمكين في الغفلة والمعاصي، الذين أشار إليهم بقوله:
{ إن الذين لا يرجون لقاءَنا } أي: لا يتوقعونه، أو: لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، { ورَضُوا بالحياة الدنيا }: قنعوا بها بدلاً من الآخرة لغفلتهم عنها، { واطمأنوا بها } أي: سكنوا إليها مقْصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها. { والذين هم عن آياتنا } المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا، { غافلون }: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون؛ لانهماكهم في الغفلة والذنوب.
قال البيضاوي: والعطف إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً، والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين: من أنكر البعث ولم يُرد إلاّ الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حبُ العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له. هـ.
{ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } أي: بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية: وفي هذه اللفظة رد على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. هـ.
الإشارة: هو الذي جعل شمس العِيَان مشرقة في قلوب أهل العرفان، لا غروب لها مدى الأزمان، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نوراً يهتدي به إلى طريق الوصول إلى العيان، وقدَّر السير به منازل ـ وهي مقامات اليقين ومنازل السائرين ـ ينزلون فيها مقاماً مقاماً إلى صريح المعرفة، وهي التوبة والخوف، والرجاء والورع، والزهد والصبر، والشكر والرضى والتسليم والمحبة، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ليتوصل به إلى الحق. إن في اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير، لقوم يتّقون السوى، أو شواغل الحس.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }.