خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
١
أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
٢
وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
٣
إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
-هود

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (كتاب): خبر، أي: هذا كتاب. و(أحكمت): صفة. و(من لدن): خبر ثان، أو خبر "كتاب" إن جعل مبتدأ، أو صفة له، إن كان خبراً. و(أَلاَّ تعبدوا): "أن" مفسرة، أو مصدرية في موضع مفعول لأجله، أو بدل من الآيات أو مستأنف. و(أن استغفروا): عطف عليه. و(حين): متعلق بمحذوف، أي: ألا إنهم يثنونها حين يستغشون... الخ. و(يعلم): استئناف لبيان النقض عليهم.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المصطفى، هذا الذي تقرؤه { كتابٌ أحكمت آياته }؛ أتقنت، ونظمت نظماً محكماً، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى، أو أحكمت بالحُجج والبراهين، أو جعلت حكيمة؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم العلمية. { ثم فُصَّلتْ }؛ بُينت لاشتمالها على بيان العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار. أو فصلت سورة سورة؛ ليسهل حفظها. وفُصلت بالإنزال نجماً نجماً، في أزمنة مختلفة. أو فُصل فيها لُخص ما يحتاج إليه من الأحكام. و(ثم): للتفاوت في الحكم؛ لأن الأحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له. نزل ذلك في الكتاب { من لَّدنْ حكيمٍ خبيرٍ }، ولذلك كان محكماً مفصلاً بالغاً في ذلك الغاية؛ لأن الحكيم الخبير لا يخفى عليه ما يخل بنظم الكلام.
قائلاً ذلك الكتاب: ألا تعبدوا معه غيره. وقال في القوت: { كتاب أحكمت آياته } يعني: بالتوحيد، { ثم فصلت } أي: بالوعد والوعيد. ثم قال: { من لدن حكيم } أي: بالإحكام للأحكام، { خبير } بالتفصيل للحلال والحرام. { ألا تعبدوا إلا الله }؛ هذا هو التوحيد الذي أحكمه. { إنني لكم منه نذير } بالعذاب، { وبشير } بالثواب لمن آمن به. هذا هو الوعد والوعيد. قاله البيضاوي: { إنني لكم منه } أي: من الله، { نذير وبشير } بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. { وأن استغفروا ربكم }: عطف على "ألا تعبدوا"، { ثم توبوا إليه }؛ ثم توصلوا إلى مطلبكم بالتوبة؛ فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من رجوع. وقيل: استغفروا من الشرك، ثم توبوا إليه بالطاعة، ويجوز أن يكون "ثم": للتفاوت بين الأمرين. هـ.
قال ابن جزي: { استغفروا ربكم } مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة.هـ. وقال الواحدي: { استغفروا ربكم } من ذنوبكم السابقة، { ثم توبوا إليه } من المستأنفة متى وقعت. هـ. { يمتعكم متاعاً حسناً }؛ يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات، فتعيشوا في أمن ودعة. { إلى أجل مسمَّى }؛ تمام أجلكم، فلا يستأصلكم بالعذاب، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه؛ لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق في الدنيا؛ استدراجاً، { ويُؤتِ } في الآخرة { كلَّ ذي فضلٍ }؛ عمل صالحاً، { فضله } أي: جزاء فضله، فيُوفي ثوابه عمله، أو يعطي كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة. وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين.
{ وإن تَولَّوا } أي: وإن تتولوا عما أمرتكم به، { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير }؛ يوم القيامة، أو يوم الشدة بالقحط والجوع، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف. أو يوم بدر { إلى الله مرجِعُكم } أي: رجوعكم في ذلك اليوم الكبير، أو بالموت، { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }؛ فيقدر على بعثهم وعذابهم أشد العذاب. وكأنه تقرير لكبر اليوم.
{ ألا أنهم يَثْنُونَ صدورَهم }؛ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يروه من شدة البغض والعداوة، { ليستخفوا منه } أي: من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو: من الله بسرهم، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين، قالوا: إن أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ذلك؟ والحاصل: أن الإثناء إن كان عن الحق ـ فالضمير في: (منه)، يعود على الله، وإن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم فالضمير يعود عليه؛ وفي البخاري عن ابن عباس: أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخَلّى أو يجامع فيفضي إلى السماء.
وقوله: { ألا حين يستغشون ثيابهم }: يحتمل أن يكون عند النوم، فيكون الإثناء عن الحق، أو عن الله، أو عند مواجهة الرسول، فيكون الإثناء عن رؤيته ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أو عن سماع القرآن. قال تعالى: { يعلم ما يسرون } في قلوبهم، { وما يعلنون } بأفواههم ـ فقد استوى في علمه سرهم وعلانيتهم، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه؟ { إنه عليم بذات الصدور } أي: بالأسرار صاحبة الصدور، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.
الإشارة: يقول الحق جل جلاله: هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات، ثم فصلت ببيان الصفات، أو: أحكمت بتبيين الحقائق، ثم فصلت بتبيين الشرائع: أو أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف، أو: أحكمت ببيان أسرار الملكوت، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيَّن ما يتعلق بالذات فقال: { ألا تعبدون إلا الله } وبيَّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال: { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه }، أو: بيَّن ما يتعلق بالحقائق، ثم ما يتعلق بالشرائع، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعاً حسناً؛ بشهود ذاته، والتنزه في أنوار صفاته، إلى أجل مسمى، وهو: النزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويؤت كل ذي فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير، وهو: غم الحجاب، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة، بقوله: { ألا إنهم يثنون صدورهم... }، الآية.
ثم بيَّن كما لعلمه تكميلاً لقوله: { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }، فقال: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ }.