خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَىٰ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ
٦٩
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ
٧٠
وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
٧١
قَالَتْ يَٰوَيْلَتَىٰ ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ
٧٢
قَالُوۤاْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
٧٣
-هود

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "سلاماً": منصوب على المصدر، أي: سلمنا سلاماً. ويجوز نصبه بقالوا؛ لتضمنه معنى ذكروا. (قال سلام): إما خبر، أي: أمرنا سلام، أو جواب سلام، وإما مبتدأ، أي: عليكم سلام. وكسر السين: لغة، وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامة؛ فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به. (فما لبث أن جاء)؛. "ما": نافية و"أن جاء": فاعل "لبث". ونكر وأنكر بمعنى واحد. والإيجاس: الإدراك أو الإضمار. و(من وراء إسحاق يعقوب): من قرأ بالنصب فبفعل دل عليه الكلام، أي: ووهبنا لها يعقوب. ومن رفعه فمبتدأ، أي: ويعقوب مولود من بعده. و(شيخاً): حال، والعامل فيه: الإشارة، أي: أشير إليه شيخاً. و(أهل البيت): نصب على المدح والاختصاص، أو على النداء.
يقول الحق جل جلاله: { ولقد جاءت رسُلنا إبراهيمَ }، وهم الملائكة، وقيل: ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: تسعة جاؤوه { بالبُشرى }؛ بالولد. فلما دخلوا عليه { قالوا سلاماً } أي: سلمنا عليك سلاماً، أو ذكروا سلاماً، { قال سلام } أي: عليكم سلام، { فما لبثَ } أي: أبطأ، { أن جاء بعجل حَنيذ }؛ مشوي بالرضف، أي: بالحجر المحمي. وقيل: حنيذ بمعنى يقطر ودكه. كقوله:
{ { بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [الذاريات: 26]، فامتنعوا من أكله، { فلما رأى أيديَهم لا تصل إليه }؛ لا يمدون إليه أيديهم، { نَكرهم } أي: أنكر ذلك منهم، { وأوجس }: أدرك، أو أضمر { منهم خفيةً } أي: خوفاً، خاف أن يريدوا به مكروهاً؛ لامتناعهم من طعامه، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه، وإلا خافوه.
والظاهر أنه أحسَ بأنهم ملائكة ونكرهم؛ لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه فأمنوه، وقالوا: { لا تخفْ إنا } ملائكة { أرسلنا إلى قوم لوطٍ } لنعذبهم، وإنما لم نأكل طعامك؛ لأنا لا نأكل الطعام. { وامرأته قائمة } من وراء ستر تسمع محاورتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، { فضحكتْ } سروراً بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الفساد، أو بإصابة رأيها، فإنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطاً، فإني لأعلم أن العذاب نازل بهؤلاء القوم. وقيل: معنى ضحكت: حاضت. يقال: ضحكت الشجرة: إذا سال صَمغُها. وقيل: ضحكت سروراً بالولد الذي بُشرت به. فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي: فبشرناها فضحكت، وهو ضعيف.
قال تعالى { فبشرناها بإسحاقَ ومن وراء إسحاق يعقوبَ } ولد ولدها. وتوجيه البشارة إليها؛ لأنه من نسلها، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد، { قالت يا ويلتا }؛ يا عجباً، وأصله في الشر، فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل، أي: يا ويلتي { أألدُ وأنا عجوزٌ } ابنة تسعين، أو تسع وتسعين { وهذا بَعْلِي }: زوجي، وأصله: القائم بالأمر، { شيخاً }؛ ابن مائة أو مائة وعشرين سنة، { إنَّ هذا لشيء عجيب } يتعجب منه؛ لكونه نشأ الولد من هرمين.
وهو استغرب من حيث العادة، لا من حيث القدرة، ولذلك قالوا: { أتعجبينَ من أمر الله }؛ منكرين عليها، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي ومظهر المعجزات. وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع، ولذلك قالوا: { رحمةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت } أي: بيت إبراهيم، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات، ولا سيما من نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، { إنه } تعالى { حميدٌ }؛ فاعل ما يستوجب به الحمد، أو محمود على كل حال { مجيد }؛ كثير الخير والإحسان. أو ممجَّد بمعنى العلو والشرف التام. قال ابن عطية هنا: إن في الآية دليلاً على ان الذبيح إسماعيل لا إسحاق. وفيه نظر. وسيأتي في سورة الصافات ما هو الحق، إن شاء الله تعالى.
الإشارة: من شأن أهل الكرم والامتنان: المبادرة إلى من أتاهم بالبر والإحسان؛ إما بقوت الأرواح، أو بقوت الأشباح. من أتاهم لقوت الأرواح بادروه بإمداد الروح من اليقين والمعرفة، ومن أتاهم لقوت الأشباح بادروه بالطعام والشراب، كُلاً ما يليق به، ومن شأن الضيف اللبيب المبادرة إلى أكل ما قُدِّمَ إليه، من غير اختبار، إلا لمانع شرعي أو عادي. ومن شأن أهل التحقيق والتصديق ألا يتعجبوا مما يظهر من القدرة من الخوارق؛ إذ القدرة صالحة لكل شيء، حاكمة على كل شيء، هي تحكم على العادة، لا العادة تحكم عليها. وهذا شأن الصديقين؛ لا يتعجبون من شيء؛ ولا يستغربون شيئاً، ولذلك توجه الإنكار إلى سارة من الملائكة، ولم يتوجه إلى مريم؛ حيث سألت؛ استفهاماً، ولم تتعجب، ووصفت بالصديقية دون سارة. والله تعالى أعلم.
ولما تحقق إبراهيم عليه السلام بهلاك قو لوط أسف عليهم، كما قال تعالى: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ }.