خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ
٧٤
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
٧٥
يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
٧٦
-هود

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "لما": حرف وجود لوجود، تفتقر للشرط والجواب. فشرطها: "ذهب"، وجوابها: محذوف أي: جعل يجادلنا. والتأوه: التفجع والتأسف، ومنه قول الشاعر:

إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين

يقول الحق جل جلاله: { فلما ذهب عن إبراهيمَ الرَّوعُ }، وهو ما أوجس في نفسه من الخيفة، { وجاءته البشرى } بدل الروع، جعل { يُجادلنا } أي: يخاصم رسلنا { في } شأن { قوم لوطٍ }، ويدفع عنهم، قال: { { إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا } [العنكبوت: 32]، { إنَّ إبراهيمَ لحليمٌ }، غير عجول من الانتقام إلى من أساء اليه. { أواهٌ }؛ كثير التأوه والتأسف على الناس، { منيب }، راجع إلى الله. والمقصود من ذلك: بيان الحامل له على المجادلة، وهي: رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة: { يا إبراهيمُ أعرضْ عن هذا }، الجدال؛ { إنه قد جاء أمرُ ربك } بهلاكهم، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم، ولا مرد لما قضى، { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود }؛ غير مصروف بجدال ولا دعاء، ولا غير ذلك.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى { إن أبراهيم لحليم أواه }؛ حليم بأنه كان لا يدعو على قومه، بل قال:
{ { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم: 36] وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه، هكذا وصْف العاشقين. ثم قال: ومجادلته كمال الانبساط، ولم يكن جهلاً، ولكن كان مُشفقاً، باراً كريماً، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة، وهو تعالى يُحب غضب العارفين، وتغير المحبين، ومجادلة الصديقين، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ ـ أي: يجترئ عليه انبساط ـ فقلت: وهل يليق له ذلك؟ فقال: يعرفه؛ فيتحمل عنه " . ثم قال: ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح: يَتَذَمَّرُ على فلان: إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، ما لم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه: { يا أبراهيم أعرض عن هذا }. فالشفقة التي تؤدي إلى معارضة القدر لا تليق بأهل الأقدار، وفي الحكم "ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله". ولهذا قالوا: الشفقة لا تليق بالأولياء.
قال جعفر الصادق ـرحمه الله ـ: ست خصال لا تحس بستة رجال: لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا: الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هلاك لوط،، فقال: { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً }.