خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٥١
ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ
٥٢
وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
٥٥
وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
-يوسف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير، وسمعه الملك، تعجب منه، واستعظم علمه وعقله، وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يُسجن، { ائتوني به فلما جاءه الرسولُ } ليُخرجه، { قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن }: ما شأنهن حتى قطعن أيديهن، وهل رأين مني ميلاُ إليهن. وإنما تأنى في الخروج، وقدَّم سؤال النسوة، والفحص عن حاله؛ ليظهر براءة ساحته، وليعلم الملك أنه سُجن ظلماً، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يتقي مواضع التهم، ويجتهد، في نفيها، وفي الحديث: "مَنْ كََان يُؤمِنُ بِالله ِواليومِ االآخِرِفلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم" .
وفيه دليل على حلمه وصبره، وعدم اهتباله بضيق السجن؛ إذ لم يُجب الداعي ساعة دُعي بعد طول سجنه. ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال "لَو لَبِثت في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي" ولم يذكر امرأة العزيز كرماً، ومراعاةً للأدب، ورعياً لذمام زوجها، وستراً لها. بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
ثم قال: { إن ربي بكيدهن عليم } حين قلن لِي: أطع مولاتك. وفي عبارته تعظيم لكيدهن، والاسشهاد عليه بعلم الله، وبراءته مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن. ثم جمع الملك النسوة، وكُن ستاً أو سبعاً، مات منهن ثلاث ويوسف في السجن، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز، و { قال } لهن: { ما خطبكُنَّ }؛ ما شأنكن { إذ راودتُنَّ } أي: حين راودتن { يوسفَ عن نفسه }، وأسند المراودة إلى جميعهن؛ لأن المَلِك لم يتحقق أن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها. { قلنَ حاشَ لله }؛ تنزيهاً لله أن يعجز عن خلق عفيف مثله، أو تنزيهاً ليوسف أن يعصيه؛ لأجل خوف الله. وهذا تبرئة ليوسف ولهن، أو لهن فقط. وتكون تبرئة يوسف في قولهن: { ما علمنا عليه من سُوءٍ }: من ذنب.
{ قالت امرأةُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحق }: أي: تبين ووضح، أو ثبت واستقر، { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } في قوله: { راودتني عن نفسي } فلما رجع إليه الرسول، وذكر ما قالته النسوة، وما أقرت به امرأة العزيز، قال: { ذلك ليعلم أني لم أخُنْهُ بالغيب } أي: فعلت ذلك التثبت والتأني في الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته { بالغيب } في حال غيبته، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة، بل تعففت عنها. { وأن الله لا يهدي كيدَ الخائنين } أي: لا ينفذه ولا يسدده. أو لا يهدي الخائنين ليكدهم. وأوقع الفعل على الكيد؛ مبالغةً. وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها، وتوكيد لأمانته.
رُوي عن ابن عباس أنه لما قال: { لم أخُنْهُ بالغيب } قال جبريل عليه السلام: ولا حين هممت. فقال: { وما أُبرئُ نفسي } لا أنزهها في عموم الأحوال، أو لا أزكيها على الدوام. قاله تواضعاً وإظهاراً للعبودية؛ وتنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه، ولا العجب بحاله، بل إظهاراً لنعمة العصمة والتوفيق.
ثم قال: { إنَّ النفسَ لأمارةٌ بالسوء } بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات، فتهُم بها، وتستعمل القوى والجوارح في نيلها في كل الأوقات، { إلا ما رحم ربي }: إلا وقت رحمة ربي بالعصمة والحفظ، أو: إلا ما رحم الله من النفوس فيعصمها من ذلك. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، { إن ربي غفور رحيم }، يغفرما همت به النفوس، ويرحم من يشاء بالعصمة. أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد.
وقيل: إن قوله تعالى: { ذلك ليعلم أني لم أخُنْه بالغيب } إلى هنا، هو من كلام زليخا. والأول أرجح.
{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } أي: أجعله خاصتي وخلاصتي، أو أجعله خالصاً لنفسي. قال أولاً: { ائتوني به } فقط، فلما تبين له حاله وظهر كماله، قال: { ائتوني به أستخلصه لنفسي } رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأتي فيها، وكان بين السجن والبلد: أربعة فراسخ، فقال يوسمف: لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك، قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟. فقال: لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لساناً، فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه، فقال: أحب أن أسمع رؤياي، فحكاها، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها فأجلسه على السرير، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى: { فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } أي: فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدعاء، { قال إنك اليوم } عندنا { مكينٌ } أي: في مكانه ومنزلة، { أمين }: مؤتمن على كل شيء، ثم فوض إليه أمر المملكة.
وقيل: توفي قطفير ـ أي: العزيز ـ فنَصَّبه منصبه، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت، وافتقرت، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها، فوجدها عذراء وولد منها إفراثيم وميشا. ثم قال له الملك: ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة؟. { قال اجعلني على خزائنِ الأرض } أي: أرض مصر ألى أمرها. والخزائن: كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. { إني حفيظٌ } لها ممن لا يستحقها، { عليم } بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي: ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة، آثر ما تعم فوائده وعوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية، وإظهار أنه مستعد لها، والتولي من يد الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد: ان الملك أسلم على يديه. هـ. قلت: وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه.
وقال ابن عطية: وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام؛ لرغبته أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه.هـ. وفي "الاكتفاء في أخبار الخلفاء": أن عمر أراد أبا هريرة على العمل، فامتنع، فقال له: أوليس يوسف خيراً منك، وقد طلب العمل؟ فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا ابن أميمَةَ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين: أن أقول بغير علم، وأقضي بغير عدل، وأن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، ويؤخذ مالي. هـ.
{ وكذلك مَكَّنَا ليوسف } أي: ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه { في الأرض }؛ أرض مصر، { يتبوأ منها حيثُ يشاءُ }: ينزل من بلادها حيث يريد هو، أو ينزل منها حيث نريد، { نُصيب برحمتنا من نشاء } في الدنيا والآخرة، { ولا نُضيع أجر المحسنين }، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً. ويوسف أفضلهم في زمانه، فمكَّنه الله من أرض مصر، حتى ملكها بأجمعها؛ وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات، حتى دخلت السنون المجدبة، وعم القحط مصر والشام، ونواحيهما، وتوجه الناس إليه، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت، هم في الرابعة بالدواب، ثم في الخامسة بالرباع والعقار، ثم في السادسة بأولادهم، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جيمعاً، ثم عرض الأمر على الملك، فقال: الرأي رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم.
قال تعالى: { ولأجرُ الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } الشرك والفواحش، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزي في قوله: { نُصيب برحمتنا من نشاء }: الرحمة هنا المراد بها الدنيا، وكذلك الأجر في قوله: { ولا نُضيع أجر المحسنين }؛ بدليل قوله بعد ذلك: { ولأجرُ الآخرة خير } فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر، وطائع وعاص، وأن المحسنين لا بد من أجرهم في الدنيا. فالأول في المشيئة، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله { للذين آمنوا وكانوا يتقون }، وفيه إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة. هـ.
الإشارة: في الآية ثلاث فوائد: الأولى: مدح التأني في الأمور، ولو كانت جلالية؛ لأنه يدل على كمال العقل والرزانة، وطمأنينة القلب. وذم العجلة؛ لأنها من خفة العقل والطيش، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأني يوسف عليه السلام في السجن بعد طول مدته. وفي الحديث
"التَأَنِّي مِن اللَّهِ، والعَجَلَةُ من الشَّيطَانِ" .
الثانية: عدم تزكية النفس، ودوام اتهامها، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدم في قوله تعالى: { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [الأنعام:70]، وقال بعض الصوفية: وكيف يصلح لعاقل أن يزكي نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول: { إنا النفس لأمارة بالسوء }، والنفوس ثلاثة: أمارة، ولوامة، ومطمئنة. وزاد بعضهم: اللهامة من قوله تعالى: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 8]..
الثالثة: تسلية أهل البلاء، إذا صحبهم الإحسان والتقوى، وبشارتهم بالعز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والنصر والتمكين في الأرض بعد الاستضعاف والهوان، يؤخذ ذلك من قوله: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين }. وفي ذلك يقول الشاعر:

وكُلُّ عَبْدٍ أَرَادَ الله عِزَّتَه فَهُو َالعَزِيزُ، وعزُّ اللهِ يغْشَاه
قََدْ لاَحَ عِزُّ لَه في الأرْضِ مُنْتَشِرٌ فَهُو الحَبِيبُ لِمَنْ نَادَاهُ لبّاهُ
يا حُسْنَهُ ومَتى قَد طَالَ مَطْلَبُه تَاجُ البرية والرحمنُ صَفَّاهُ

ولما أصاب أرض كنعان ما أصاب سائر البلاد، وسمع يعقوب عليه السلام بأن مَلِكَ مصر يبيع الطعام، أرسل، بنيه ـ غير بنيامين ـ إلى مصر للميرة، كما قال تعالى: { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ }.