خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
٦٣
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٦٤
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مَا نَبْغِي هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
٦٥
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
٦٦
وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٦٧
-يوسف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (نكتل): أصله: نَكْتَيِِل، بوزن نفتعل، من الكيل، قلبت الياء ألفاً؛ لتحرك ما قبلها، ثم حذفت للساكنين. و (حفظاً): تمييز، ومن قرأ بالألف فحال، كقوله: لله دره فارساً. أو تمييز، وهو أرجح. و(ما نبغي): استفهامية، أو نافية. و(نمير أهلنا): عطف على محذوف، أي: ردت فنستظهر بها ونمير... الخ. قال في القاموس: مار يَمير؛ بالكسر: جَلَب الطعام. هـ. و(إلا أن يحاط): استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم.
يقول الحق جل جلاله: { فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنع منا الكيلُ } أي: حكم بمنعه بعد هذا، إن لم نذهب بأخينا بنيامين، { فأرْسِل معنا أخانا نكتلْ } أي: نرفع المانع من الكيل، ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ الأخوان بالياء: { يكتل } لنفسه، فنضم اكتياله إلى اكتيالنا، { وإنا له لحافضون } من أن يناله مكروه. { قال هل آمنكم عليه } أي: ما آمَنكم عليه { إلا كما أمنْتُكُم على أخيه من قبلُ }، وقد قلتم في يوسف: { وإنا له لحافظون }، { فاللَّهُ خيرٌ حافظاً }؛ فأثق به، وأفوض أمري أليه، { وهو أرحمُ الراحمين }، فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع عليّ مصيبتين.
{ ولما فَتحوا متاعَهُم }: أوعيتهم، { وجدوا بضاعَتَهم رُدت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي } أي: ما نطلب، فهل من مزيد على هذه الكرامة، أكرمنا وأحسن مثوانا، وباع منا، ورد علينا متاعنا، ولا نطلب وراء ذلك إحساناً. أو: ما نتعدى في القول، ولا نزيد على ما حكينا لك من إحسانه. أو: ما نبغي على أخينا، ولا نكذب على الملك. { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا }، وهو توضيح وبيان لقولهم: { ما نبغي }، أي: ردت إلينا فنتقوى بها. { ونمير أهلَنا }: نسوق لهم الميرة ـ وهو: الطعام حين نرجع إلى الملك، { ونحفظُ أخانا } من المكاره في ذهابنا وإيابنا.. { ونزدادُ كيلَ بعيرٍ } بزيادة حِمل بعير أخينا، إذ كان يوسف عليه السلام لا يعطي إلا كيل بعير لكل واحد.
{ ذلك كيلٌ يسير } أي: ذلك الطعام الذي أتيناه به شيء قليل لا يكفينا حتى نرجع ويزيدنا كيل أخينا، أوْ ذلك الحِمل الذي يزيدنا لبعير أخينا ـ كيل قليل عنده، يسهل عليه لا يتعاظمه، فلا يمنعنا منه. كأنهم اسْتَقَلَّوا ما كيل لهم؛ فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. وقيل: إنه من كلام يعقوب عليه السلام، والمعنى: أن حمل بعير شيء قليل لا يخاطرَ لمثله بالولد.
{ قال لن أرْسِلهُ معكم }؛ لأني رأيت منكم ما رأيت، { حتى تُؤتون موثقاً من الله }؛ حتى تعطوني ما أثق به من عهد الله، وتحلفوا ليَ الأيمان الموثقة { لتأتنني به } في كل حال، { إلا أن يُحاطَ بكم }؛ إلا أن تغلبوا، ولا تطيقوا الإتيان به. أو: إلا أن تهلكوا جميعاً ويحيط الموت بكم { فلما آتَوْهُ موثقَهم }؛ عهدهم وحلفوا له، { قال } أبوهم: { الله على ما نقولُ } من طلب الموثق وإتيان الولد { وكيل } أي: مطلع رقيب، لا يغيب عنه شيء.
ثم وصاهم { وقال } لهم: { يا بَنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقةٍ }. وكانت في ذلك العهد خمساً: باب الشام، وباب المغرب، وباب اليمن، وباب الروم، وباب طَيْلون. فقال لهم: ليدخل كل أخوين من باب، خاف عليهم العين؛ لأنهم أهل جمال وأُبَّهة، مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة؛ فإذا دخلوا كبكبة واحدة أصابتهم العين. ولعل لم يوصهم بذلك في المرة الأولى؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ، وللنفس آثار من العين، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"العَينُ حَقٌّ تُدخِل الرَّجُلَ القَبرَ والجَمَلَ القِدرَ" .
وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منها، بقوله: "اللهم إنِّي أَعُوذ بك مِن كَلِّ نَفسٍ هَامَّةٍ، وعَينٍ لامَّةٍ" .يؤخذ من الآية والحديث: التحصن منها قياماً برسم الحكمة. والأمر كله بيد الله. ولذلك قال يعقوب عليه السلام: { وما أغني عنكم من الله من شيء } مما قُضي عليكم بما أشرت به عليكم، والمعنى: أن ذلك لا يدفع من قدر الله شيئاً، فإن الحذر لا يمنع القدر، { إن الحُكم إلا لله } فما حكم به عليكم لا ترده حيلة، { عليه توكلتُ وعليه فليتوكل المتوكلون } أي: ما وثقت إلا به، ولا ينبغي أن يثق أحد إلا به. وإنما كرر حذف الجر؛ زيادة في الاختصاص؛ ترغيباً في التوكل على الله والتوثق به.
الإشارة: رُوي أن إخوة يوسف لما رجعوا عنه صاروا لا ينزلون منزلاً إلا أقبل عليهم أهل ذلك المنزل بالكرامات والضيافات، فقال شمعون: لما قدمنا إلى مصر ما التفت إلينا أحد، فلما رجعنا صار الناس كلهم يكرموننا؟ فقال يهوذا: الآن أثر الملك عليكم، ونور حضرته قد لاح عليكم. هـ. قلت: وكذلك من قصد حضرة العارفين لا يرجع إلا محفوفاً بالأنوار، معموراً بالأسرار، مقصوداً بالكرامة والإبرار.
قوله تعالى: { فأرسل معنا أخانا... } إلخ؛ قال الأستاذ القشيري: المحبة غيورٌ؛ لما كان ليعقوب تَسَلٍّ عن يوسف برؤية بنيامين، أبت المحبة إلا أن تظهر سُلطانها بالكمال فغارت على بنيامين أن ينظر إليه يعقوب بعين يوسف. هـ. قلت: وكذلك الحق تعالى غيور أن يرى في قلب حبيبه شيئاً غيره، فإذا رأى أزاله عنه، وفرق بينه وبين ذلك الشيء، حتى لا يُحب شيئاً سوى محبوبه. هذا مما يجده أهل الأذواق في قلوبهم.
وقوله تعالى في وصية يعقوب: { لا تدخلوا من باب واحد }، فيه إشارة إلى أن الدخول على الله لا يكون من باب واحد بحيث يلتزم المريد حالة واحدة وطريقة واحدة؛ كالعزلة فقط، أو الخلطة فقط، أو الصمت على الدوام، أو ذكر الاسم على الدوام. بل لا بد من التلوين قبل التمكين وبعده؛ فالعزلة على الدوام: مقام الضعف، والخلطة من غير عزلة بطالة. بل لا يكون عارفاً حتى يعرف الله، ويكون قلبُه معه في العزلة والخلطة، والصمت والكلام، والقبض والبسط، والفقد والوجد، ويترقى من ذكر الاسم إلى الفكرة والنظرة، كما هو عند أهل الفن.
وقوله تعالى: { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون }، فيه تهييج على مقام التوكل، وحث على الثقة بالله في جميع الأمور. وفي ذلك يقول الشاعر:

تَوَكَّل على الرَّحمن في كُلِّ حَاجَةٍ وَثِق بالله، دَبَّر الخلق أجمعْ
وضَع عَنكَ هَمَّ الرِّزْقِ؛ فالرَّبُّ ضَامِنٌ وكفّ عن الْكَونَينِ والخلق أَربع

قوله: "والخلق أربع" أراد العالم العلوي والسفلي، والدنيا والآخرة. وكلها أكوان مخلوقة يجب كف البصر والبصيرة عن الميل إليها، والوقوف معها. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر رجوعهم إلى مصر، واتصال يوسف بأخيه، وإمساكه عنده إلى أن اتصل بأبيه، فقال: { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم }.