خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
٨٤
قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ
٨٥
قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٦
يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٧
-يوسف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: يا أسفي، ويا ويلتي، ويا حسرتي، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم. والأسف: أشد الحزن. وقيل: شدة الحسرة. و (كظيم): إما بمعنى مفعول، كقوله: (وهو مكظوم)؛ أي: فهو مملوء غيظاً على أولاده، ممسك له في قلبه، تقول: كظم السقاء؛ إذا شد على ملئِه. أو بمعنى فاعل؛ كقوله: { { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } [آل عمران: 134]؛ من كظم البعير جِرَّتَهُ؛ إذا ردها في جوفه. و (تفتأ): من النواقص اللازم للنفي، وحذفه هنا لعدم الإلباس؛ لأنه لو كان مثبتاً لأكد باللام والنون. والحرض: المريض المشرف على الهلاك، وهو في الأصل مصدر، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. والبث: أشد الحزن.
يقول الحق جل جلاله: { وتولّى } يعقوب عن أولاده، أي: أعرض { عنهم } لما لم يصدقهم، كراهةً إما صادف منهم، ورجع إلى تأسفه { وقال يا أسَفَا } أي: يا شدة حزني { على يوسف }. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد؛ لإفراط محبته فيه، ولأن مصيبته سبقت عليهما. { وابيضَّتْ عيناه } من كثرة البكاء { من الحُزن }، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها، وقيل: ضعف بصره، وقيل: عمي. وقد رُوي أنه: "حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ".
وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
"القلْبُ يَحْزَنُ، والعَيْنُ تَدمَعُ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون" .
{ فهو كظيم } أي: مملوء غيظاً على أولاده؛ لما فعلوا. أو كاظم غيظه، ماسك له، لم يظهر منه شيئاً، ولم يَشْكُ لأحد.
{ قالوا تاللهِ تَفْتَؤا }: لا تزال { تذكرُ يوسفَ } تفجعاً عليه، { حتى تكون حَرَضاً }: مشرفاً على الهلاك، { أو تكون من الهالكين }: من الميتين. { قال إنما أشكو بَثّي } أي: شدة همي { وحزني } الذي لا صبر عليه، { إلى الله } لا إلى أحد منكم ولا غيركم؛ فَخَلّوني وشِكَايتي، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر؛ فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف فيه؛ لأن فيه إظهار الفقر، والعجر بين يديه، وهو محمود. { وأعلمُ من الله ما لا تعلمون } أي: أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي، وأنه لا يخيب دعائي، ما لا تعلمون. أو: وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون؛ لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته، كما تقدم. وقيل: علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً.
{ يا بَني اذهبوا } إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم، { فتحسسُوا من يوسفَ وأخيهِ } أي: تعرفوا من خبرهما، وتفحَّصوا عن حالهما. والتحسس: طلب الشيء بالحواس. وإنما لم يذكر الولد الثالث؛ لأنه بقي هناك اختياراً. وفي ذكر يوسف دليل على أنه كان عالماً بحياته. { ولا تيأسوا من رَّوْح الله }: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه، أو من رحمته، وقرئ بضم الراء، أي: من رحمته التي يحيي بها العباد، أي: ولا تيأسوا من حي معه روح الله؛ فكل من بقي روحه يرْجى، أي: ويوسف عندي، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه. { إنه } أي: الشأن { لا ييأسُ من رَّوْح الله إلا القومُ الكافرون } بالله وصفاته؛ لأن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال. وإنما جعل اليأس من صفة الكافر؛ لأن سببه تكذيبٌ بالربوبية، أو جهل بصفة الله وقدرته، والجهل بالصفة جهل بالموصوف، فالإياس من رحمة الله كفر.
وأما حديث الرجل الذي قال: (إذا متُّ فاحرقوني، ثم اذْروني في البحر والبر في يوم رائح، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس)، حسبما في الصحيح، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم بضبط حاله؛ إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش، دون عقد ولا إصرار على نفي الرحمة واليأس منها. ويدل على ذلك قوله: (لما قال له الرب ـ تعالى ـ: ما حملك على هذا؟ قال: مخافتك، فغفر له). ولم يقل اليأس من رحمتك. انظر المحشي الفاسي.
الإشارة: لم يتأسف يعقوب عليه السلام على فقد صورة يوسف الحسية، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه، في تجلي يوسف وحسن طلعته البهية، وفي ذلك يقول ابن الفارض:

عَيْني لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظُرُ وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لا يَخطرُ

فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه، وإلا فالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أولى بالغنى بالله عما سواه. فإذا حصل للقلب الغنى بالله لم يتأسف على شيء، ولم يحزن على شيء؛ لأنه حاز كل شيء، ولم يفته شيء. "ماذا فقد من وجده، وما الذي وجد من فقده". ولله در القائل:

أَنَا الفَقِيرُ إِليْكُمُ والْغَنِيُّ بِكُمُ وَلَيْس لِي بَعدَكُمُ حِرْصٌ عَلى أَحدِ

وهذا أمر محقق، مذوق عند العارفين؛ أهل الغنى بالله. وقوله: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }: فيه رفع الهمة عن الخلق، والاكتفاء بالملك الحق، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق... وهو ركن من أركان طريق التصوف، بل هو عين التصوف. وبالله التوفيق.
ثم ذهبوا إلى مصر كما أمرهم أبوهم، قال تعالى: { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ }.