خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٥
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ
٦
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
٧
وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ
٨
-إبراهيم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (أنْ أخرج): إما تفسيرية لا محل لها، أي: وقلنا: أن أخرج؛ لأن في الإرسال معنى القول، أو على إسقاط الخافض، أي: بأن أخرج، فإنَّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر، فيصح أن توصل بها "إن" الناصبة.
يقول الحق جل جلاله: { ولقد ارسلنا موسى بأياتنا }؛ كاليد والعصا، وسائر معجزاته التسع، وقلنا له: { أن أخرج قومَك }؛ بني إسرائيل، وفرعون وملأه؛ { من الظلمات إلى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أما فرعون وملؤه فظاهر، وأما بنو أسرائيل فقد كان فرعون فَتَنَ جُلّهم، وأضلهم مع القبط، فكانوا أشياعاً متفرقين، لم يبق لهم دين. فإن قلتَ: إذا كان موسى عليه السلام مبعوثاً إلى القبط، فِلمَ لَمْ يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام؟ فالجواب: أنه لما بلَّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين.
ثم أمره بالتذكير فقال: { وذكِّرْهُم بأيامِ الله } : بوقائعه التي وقعت على الأمم الدارجة قبلهم، وأيام العرب: حروبها. أو ذكِّرهم بِنَعم الله وآلائه، وبنقمه وبلائه؛ فالأيام تطلق على المعنيّين. { إنَّ في ذلك لآياتٍ لكل صبارٍ } في بلائه، { شكور } لنعمائه، وإنما خصه؛ لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء، وأُفِيض عليهم من النعماء، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل: المراد لكل مؤمن، وإنما عبَّر بذلك؛ تنبيهاً على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان. قاله البيضاوي.
{ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ أنجاكم }: حين أنجاكم { من آلِ فرعونَ }: رهطه، { يسومونكم }: يُولونكم { سُوء العذابِ }: أقبحه يستعبدونكم ويُكلفونكم مشاق الأعمال، { ويُذبِّحُون أبناءكم ويستحْيون نساءكم }، قال البيضاوي: المراد بالعذاب هنا غير المراد به في سورتَيْ البقرة والأعراف؛ لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل، ومعطوف عليه هنا، فهو هنا إما جنس العذاب، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. هـ. { وفي ذلكم } الامتحان { بلاء } أي: ابتلاء { من ربكم عظيم }؛ اختبركم به حتى أنقذكم منه، ليعظم شكركم، أو: في ذلك الإنجاء بلاء، أي: نعمة واختبار عظيم، لينظر كيف تعملون في شكر هذه النعمة.
ولذلك قال لهم موسى عليه السلام: { وإذْ تأذَّنَ ربكُمْ } أي: آذن، بمعنى أعلمَ، كتوعَّد وأوعد، غير أنَّ تأذن أبلغ من آذن؛ لما في تفعّل من التكلف والمبالغة، أي أعلمكم، وقال: والله { لئن شكرتم } يا بني إسرائيل ما أنعمتُ به عليكم من الإنجاء وغيره، بالإيمان والعمل الصالح، وبالإقرار باللسان، وإفراد النعمة للمنعم بالجَنَان، { لأَزيدَنَّكُمْ } نعمة على نعمة. وهذ الخطاب، وإن كان لبني إسرائيل، يعم جميع الخلق، والزيادة إما من خير الدنيا، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء؛ فتكون الزيادة في الضراء، إما في ثواب أو في التقريب. ثم ذكر ضده فقال: { ولئن كفرتم } ما أنعمتُ به عليكم، وقابلتموه بالكفر والعصيان، { أنَّ عذابي لشديد }؛ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي: ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويُعرض بالوعيد. هـ. فصرح بوصول الزيادة إليهم، ولم يقل: أعذبكم عذاباً شديداً، بل عظم عذابه في الجملة.
{ وقال موسى }، في شأن من لم يشكر: { إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً } من الثقلين، { فإنَّ الله لغنيٌّ } عن شكركم، { حميد }: محمود على ألسنة خلقه، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده؛ حالاً أو مقالاً، فهو غني أيضاً عن حمدكم، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم؛ حيث حرمتموها مزيد الإنعام، وعرضتموها لشديد الانتقال. وبالله التوفيق.
الإشارة: ذكر الحق تعالى في هذه الآية مقامين من مقامات اليقين: الصبر والشكر، ومدح من تخلق بهما واستعملهما في محلهما، فيركب أيهما توجه إليه منهما، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر، وأجره لا ينحصر، والشكر ضامن للزيادة، قال بعض العارفين: (لم يضمن الحق تعالى الزيادة في مقام من المقامات إلا الشكر)، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات، من حيث إنه متضمن للفرح بالله، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر؛ لأن الشاكر يرى المنن في طي المحن، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك؛ لأنه لا يكون شاكراً حقيقة حتى يشكر في السراء والضراء، ولا يشكر في الضراء حتى يراها سراء، باعتبار ما يُواجَه به في حال الضراء من الفتوحات القلبية، والمواهب اللدنية، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر، صاحبه يتجرع مرارة الصبر؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى في حال بلائه، ولو ترقى إلى شهوده لَلَذَّتْ لديه البلايا، كما قال صاحب العينية:

تَلَذُّ لِيَ الآلامُ؛ إذْ كُنْتَ مُسْقِمِي وإنْ تَخْتَبِرْنِي فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ

لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف؛ فتارة تجده قوياً يتلقى المهالك بوجه ضاحك، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفاً؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في كتاب القصد: "رأيت كأني مع النبيين والصديقين، فأردت الكون معهم، ثم قلت: اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم، فقيل لي: قل: وما قدّرت من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم.
ثمَّ ذكرهم عن سلف قبلهم