خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٨
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٢٩
فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
٣٠
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ
٣١
قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ
٣٢
قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٣٣
قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
٣٤
وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٣٥
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
٣٦
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ
٣٧
إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ
٣٨
قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
٣٩
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ
٤٠
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ
٤١
-الحجر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (وإذْ قال): ظرف لاذكر، وقوله: { فَقَعُوا }: امرٌ، من وقَع، يقع، قَعْ، فهو مما حُذفت فاؤه. وقوله: (فسجد) معطوف على محذوف، أي: فخلقه، وأمر الملائكة فسجدوا.
يقول الحق جل جلاله: { و } اذكر يا محمد { إذْ قال ربك للملائكة }، قبل خلق آدم: { إني خالق بشراً من صَلْصَالٍ من حمأٍ مسنونٍ }، وصفه لهم بذلك ليظهر صدق من يمتثل أمره، قال تعالى: { فإذا سويتُه }: عدلت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها، { ونفختُ فيه من روحي }؛ حين جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي، وأصل النفخ: إجراء الروح في تجويف جسد آخر. ولما كان الروح يتعلق أولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلقه بالبدن نفخاً. قاله البيضاوي. وأضاف الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك، اي: من الروح الذي هو لي، وخلق من خلقي.
فإذا نفخت فيه { فَقَعوا }: فأسقطوا { له ساجدين فسجد الملائكةُ } حين أكمل خلقته، وأمرهم بالسجود، وقيل: اكتفى بالأمر الأول، { كلُّهم أجمعون }، أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، { إلا إبليس أبى }: امتنع { أن يكون مع الساجدين }، قال البيضاوي: إن جُعِل الاستثناء منقطعاً اتصل به قوله: { أبَى }؛ أي: لكن إبليس أبَى أن يسجد، وإن جُعِل متصلاً كان قوله: { أبَى }: استئنافاً، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد؟ فقال: أبى.. الخ. قلت: والأحسن: أن يقدر السؤال بعد قوله: { إلا إبليس أبى } أي: وما شأنه؟ فقال: أبى أن يكون مع الساجدين.
قال تعالى: { يا إبليس ما لكَ }؛ أي شيء عرض لك، { ألا تكونَ مع الساجدين } لآدم؟ { قال لم أكن لأسجُدَ } أي: لا يصح مني، بل ينافي حالي أن أسجد { لبشرٍ } جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، وقد { خلقتَه من صلصالٍ من حمإ مسنونٍ }، وهو أخس العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم من جهة الأصل، وغفل عن الكمالات التي خصه الله بها، منها: أنه خلقه بيديه بلا واسطة، أي: بيد القدرة والحكمة، بخلاف غيره، ومنها: أنه خصه بالعلوم التي لم توجد عند غيره من الملائكة، ومنها: أنه نفخ فيه من روحه المضافة إلى نفسه، ومنها: أنه جعله خليفة في أرضه... إلى غيره ذلك من الخواص التي تشرف بها فاستحق السجود.
قال له تعالى لَمَّا امتنع واستكبر: { فاخرجْ منها } أي: من السماء، أو من الجنة، أو من زمرة الملائكة، { فإنك رجيمٌ }: مطرود من الخير والكرامة؛ فإنَّ من يُطرد يُرجم بالحجر، أو شيطان يُرجم بالشهب، فهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته، أي: ليس الشرف بالأصل، إنما الشرف بالطاعة والقرب. { وإن عليك اللعنةَ }: الطرد والإبعاد { إلى يوم الدين }؛ يوم الجزاء، ثم يتصل باللعن الدائم. وقيل: إنما حد اللعن لأنه أبعد غاية يضربها الناس، أو لأنه يعذب فيه بما ينسى اللعن، فيصير كأنه زال عنه ذلك اللعن.
{ قال ربِّ فأنْظِرني }: أخرني { إلى يوم يُبعثون }، أراد أن يجد فسحة في الإغواء، ونجاة من الموت، إذ لا موت بعد وقت البعث، فأجابه إلى الأول دون الثاني، { قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم }: المعين فيه أجلك عند الله، وانقراض الناس كلهم، وهو النفخة الأولى عند الجمهور.
وهذه المخاطبة، وإن لم تكن بواسطة، لا تدل على منصب إبليس؛ لأن خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال. قاله البيضاوي. وجزم ابن العربي، في سراج المريدين، بأن كلام الحق تعالى إنما كان بواسطة، قال: لأن الله لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس، فكيف يكلم من تولى إضلالهم. هـ. وتردد المازُريُّ في ذلك وقال: لا قاطع في ذلك، وإنما فيه ظواهر، والظاهر لا تفيد اليقين. ثم قال: وأما قوله: { ما منعك أن تسجد }: فيحتمل أن يكون بواسطة أو بغيرها، تقول العرب: كلمت فلاناً مشافهة، بالكلام، وتارة بالبعث. هـ. قلت: الظاهر أنه كلمه بلا واسطة من وراء حجاب، كلامَ عتابٍ وإهانة، كما يوبخ الكفار يوم القيامة، مع أن الواسطة محذوفة عند المحققين، وإن وُجِدَتْ صُورَةً.
ثم قال: { ربِّ بما أغويتني } أي: بسبب إغوائك لي، { لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض }، وقيل: الباء للقسم، أي: بقدرتك على إغوائي، لأزينن لهم المعاصي والكفر في الدنيا، التي هي دار الغرور. قال ابن عطية: قوله: { رَبِّ }: مع كفره، يُخرج على أنه يقر بالربوبية والخلق، وهذا لا يدفع في صدر كفره. وقال، على قوله: { لم أكن لأسجد }: ليس هذا موضع كفره عند الحذاق؛ لأن إبايته إنما هي معصية فقط، أي: وإنما كفره لاعتراضه لأمر الحق واستكباره. وأما قوله وتعليله فإنما يقتضي أن آدم مفضول، وقد أمره أن يسجد لمن هو أفضل منه، فرأى أن ذلك جور، فقاس وأخطأ، وجهل أن الفضائل إنما هي حيث جعلها الله تعالى المالك للجميع. هـ. مختصراً. وقال المازري: أما كفر إبليس فمقطوع به؛ لقوله:
{ { وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 34] ثم قال: ويؤكده قوله: { ربِّ بما أغويتني }، وقوله: { { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ... } الآية [ص: 85]، وغير ذلك من ظواهر ما يدل على كفره.
وأما: هَلْ حدث هذا الكفر بعد إيمان سابق، أو لم يزل كافراً منذ كان؟ فهذا لا يحصله إلا نص قرآن، أو خبر متواتر، أو إجماع أمة، وهي المحصلة للعلم، وهذه الثلاثة مفقودة هنا. هـ. قلت: والظاهر أن كفره لم يظهر إلا بعد الأمر بالسجود لآدم، وإنما سبق به العلم القديم، وكان قد أظهر الإيمان والعبادة والله تعالى أعلم.
وقوله: { ولأغوينّهم أجمعين }؛ أي: لأحملنهم على الغواية أجمعين، { إلا عبادكَ منهم المخلَصين }؛ الذين أخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من الشهوات، فلا يعمل فيهم كيدي. ومن قرأ بالكسر فمعناه: الذين أخلصوا دينهم لله، وتحصنوا بالإخلاص في سائر أعمالهم. { قال } تعالى: { هذا صراطٌ عليَّ مستقيمٌ }؛ الإشارة إلى نجاة المخلصين، أو إلى العبادة والإخلاص، أي: هذا الطريق الذي سلكه أهل الإخلاص في عبوديتهم هو طريق وارد عليَّ، وموصل إلى جواري، لا سبيل لك على أهله؛ لأنه مستقيم لا عوج فيه. وقيل: الإشارة إلى انقسام الناس إلى غاوٍ ومخلص، أي: هذا أمر إليَّ مصيره، والنظر فيه لي، عليَّ أن أراعيه وأبينه، مستقيم لا انحراف فيه. وقرأ الضحاك ومجاهد والنخعي، وغيرهم: "عَلِيٌّ؛ بكسر اللام والتنوين، من العلو والشرف، والإشارة حينئذٍ إلى الإخلاص، أي: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت بإغوائك أهلَه يا إبليس.
الإشارة: إنما يصعب الخضوع للجنس أو لمن دونه، في حق من يغلب حسه على معناه، وفرقُه على جمعه وأما من غلب معناه على حسه، حتى رأى الأشياء الحسية أواني حاملة للمعاني، أي: لمعاني أسرار الربوبية، بل رآها أنواراً بارزة من بحر الجبروت، لم يصعب عليه الخضوع لشيء من الأشياء؛ لأنه يراها قائمة بالله، ولا وجود لها مع الله، فلا يخضع حينئذٍ إلا لله، فالملائكة - عليهم السلام - نفذت بصيرتهم، فرأوا آدم عليه السلام قبلة للحضرة القدسية، فغلب عليهم شهود المعاني دون الوقوف مع الأواني، فخضعوا لآدم صورةً، ولله حقيقة. وإبليس وقف مع الحس، وحجب بالفرق عن الجمع، فلم ير إلا حس آدم دون معناه، فامتنع عن السجود، وفي الحِكَم العطائية: "فمن رأى الكون، ولم يشهد الحق فيه، أو عنده، أو قبله، أو بعده، أو معه، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بحب الآثار". ولهذا المعنى صعب الخضوع للأشباح؛ لغلبة الفرق على الناس، إلا من سبقت له العناية، فإنه يخضع مع الفرق؛ محبة لله، حتى يفتح الله عليه في مقام الجمع، فيخضع لله وحده. والتوفيق لهذا، والسير على منهاجه ـ أعني الخضوع لمن يوصل إلى الله ـ هو الصراط الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله: { هذا صراط عَلَيَّ مستقيم }. والله تعالى أعلم.
ثمَّ ذكر من لا تسل للشيطان عليه فقال: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.... }