خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
٢٣
وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
٢٤
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً
٢٥
-الإسراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { قضى }، هنا، بمعنى حكم وأوجب وأمر، لا بمعنى القضاء؛ إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله. وفي مصحف ابن مسعود: "ووصى ربك ألا تعبدوا". و (أن): مفسرة، أو مصدرية، أي: بأن لا تعبدوا، و { إما }: إن الشرطية دخلت عليها "ما" المؤكدة. و { فلا تقل }: جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب في { عندك }، وفيما سبق - مع أن ما سبق ضمير الجمع -؛ للاحتراز عن التباس المراد، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما. ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام.
و "أفُّ": اسم فعل، معناها: قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي: أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل: أُفّ لَهُ. وقال في القاموس: أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ: تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر. وأُفّ: كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها، ولغتها أربعون، ثم ذكرها. وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وقضى ربُّك }؛ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، بـ { ألاَّ تعبدوا إِلا إِياه }؛ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، { و } أحسنوا { بالوالدين إِحسانًا }؛ لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة؛ "من لم يشكر الناس لم يشكر الله".
ثم أمر ببرهما، فقال: { إِما يبلغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما } أي: مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، { فلا تقلْ لهما أُفٍّ } أي: فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء؛ قياسًا بطريق الأخرى. وقال في الإحياء: الأُفّ: وسخ الظفر، والتف: وسخ الأذن، أي: لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل: لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. هـ.
{ ولا تنهرهما }؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. { وقل لهما قولاً كريمًا }؛ جميلاً لينًا لا غلظ فيه، { واخفض لهما جناحَ الذل }؛ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه؛ مبالغة؛ فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك { مِنَ الرحمة } أي: من إفراط الرحمة لهما والرقة والشفقة عليهما. { وقل ربِّ ارحمهما } أي: وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين؛ لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام، فقل اللهم ارحمهما { كما ربياني صغيرًا } أي: رحمة مثل رحمتهما عليّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري، وفاء بعهدك للراحمين. فالكاف في محل نصب؛ على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: رحمة مثل تربيتهما، أو مثل رحمتهما لي، على أن التربية رحمة. ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا، وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر، كما يلوح له التعرض لعنوان الربوبية، كأنه قيل: رب ارحمهما، ورَبِّهِمَا كما ربياني صغيرا. ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، كقوله:
{ { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 198].
ولقد بالغ الحق تعالى في التوصية بالوالدين؛ حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه، ونظمهما في سلك القضاء بعبادته، ثم ضيق في برهما حتى لم يُرخص في أدنى كلمة تتفلت من المتضجر، وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كلَّ شيء مشبهة بتربيتهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"رِضَا اللهِ في رضا الوَالِدَين، وَسَخَطُهُ في سَخَطِهِمَا" . "ورُوي: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبَويَّ بَلَغَا مِنْ الكِبَر إلى أنِّي ألي منهما ما وَلَيَا مِنِّي في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما" . ورُوي أن شيخًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني هذا له مال كثير، ولا ينفق عليّ من ماله شيئًا، فنزل جبريل وقال: إن هذا الشيخ أنشأ في ابنه أبياتًا، ما قُرعَ سَمْعٌ بمثلها، فاستنشدها، فأنشدها الشيخ، فقال:

غَذَوْتُـك مَوْلــُودًا ومُنْتُـك يَافعـًـا تُعلُّ بما أُجْرِي عليك وتَنْهَلُ
إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْـمِ لـَم أَبِتْ لسُقْمـِكَ إلا باكِـيًـا أَتَملْمَــلُ
كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي طُرِقتَ به دُونى وعَيْنِيَ تمْهَلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السّـِنَّ والغَايـَةَ الَّتي إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جزَائي غـلْظَـةً وفَظَاظَةً كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَــقَّ أُبوَّتـي فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ

ومن تمام برهما: زيارتهما بعد موتهما، والدعاء لهما، والتصدق عليهما، ففي الحديث: "إنما الميت في قبره كالغريق، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها" . وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: (كان يقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده، وأشار بيده نحو السماء)، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من طريق أبي هريرة قال: "إن الله ليرفع العبد الدرجة، فيقول: يا رب، أنَّى لي بها؟! فيقول: باستغفار ابنك لك" ، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به، بعد موتهما؟ فقال: "نعم... الصلاة عليهما - أي: الترحم والاستغفار لهما -، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما" .
قال تعالى: { ربكم أعلمُ بما في نفوسكم } من قصد البر إليهما، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يُضمر لهما كراهة واستثقالاً، { إِن تكونوا صالحين }؛ قاصدين للصلاح، أو طائعين لله، { فإِنه كان للأوابين }: التوابين، أو الرجّاعين إلى طاعته، { غفورًا } لما فرط منهم عند حرج الصدر؛ من إذاية ظاهرة أو باطنة، أو تقصير في حقهما. ويجوز أن يكون عامًا لكل تائب، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجًا أوليًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أوحى الله تعالى به في حق والدي البشرية، يجري مثله في والد الروحانية، وهو الشيخ، ويزيد؛ لأنه أوكد منه؛ لأنَّ أب البشرية كان السبب في خروجه إلى دار الدنيا، معرضًا للعطب أو السلامة، وأب الروحانية كان سببًا في خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة، وهما السبب في التخليد في النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدم في سورة النساء تمام هذه الإشارة. والله تعالى أعلم.
ثمَّ أمر بالإحسان إلى القرابة لقربهما من الوالدين