خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
٩٢
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً
٩٣
قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً
٩٤
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً
٩٥
آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
٩٦
فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً
٩٧
قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً
٩٨
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً
٩٩
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً
١٠٠
ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً
١٠١
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { بين السدين }: مفعول، لا ظرف؛ لأنه يستعمل متصرفًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ثم أتْبَعَ } ذو القرنين { سببًا }: طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب، سالكًا من الجنوب إلى الشمال، { حتى إذا بلغ بين السدين }: بين الجبلين، اللذين سُدَّ ما بينهما، وهو منقطع أرض الترك، مما يلي المشرق، لا جبال أرمينية وأذربيجان، كما توهم، وفيه لغتان: الضم والفتح، وقيل: ما كان من فعل الله فهو مضموم، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح. { وجد من دونهما } أي: من ورائهما: مما يلي بر الترك، { قومًا }: أمة من الناس { لا يكادون يفقهون }: يفهمون { قولاً }؛ لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم، وقرئ بالضم؛ رباعيًا، أي: لا يُفصحون بكلامهم، واختلف فيهم، قيل: هم جيل من الترك؛ قال السدي: الترك سُرْبة من يأجوج ومأجوج، خرجت، فضرب ذو القرنين السد، فبقيت خارجة. قلت: ولعلهم طلبوا منه ذلك، حين اعتزلوا قومهم، ثم قال: فجميع الترك منهم. وعن قتادة: أنهم، - أي: يأجوج ومأجوج - اثنتان وعشرون قبيلة، سد ذو القرنين على إحدى وعشرين، وبقيت واحدة، فسُموا الترك؛ لأنهم تُرِكُوا خارجين. قال أهل التاريخ: أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أَبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج. هـ.
وقُرِئ بالهمز فيهما؛ لأنه من أجيج النار، أي: ضوؤها وشررها، شُبهوا به في كثرتهم وشدتهم، وهو غير منصرف؛ للعجمة والعلَمية.
{ قالوا يا ذا القرنين }، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان، أو يكون فَهم كلامهم، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب، فقالوا له: { إِن يأجوج ومأجوج }، قد تقدم أنهم من أولاد يافث. وما يقال: إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح، واختلف في صفاتهم، فقيل: في غاية صغر الجثة وقصر القامة، لا يزيد قدمهم على شبر، وقيل: في نهاية عِظم الجسم وطول القامة، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعًا، وفيهم من عرضه كذلك.
"قال عبد الله بن مسعود: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال:هم أمم، كل أمة أربع مائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح، قيل: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مُقَدَّمَتُهُمْ بالشام، وسَاقَتُهُمْ بخراسان، يشربون أنهار المشرق، وبحيرة طبرية" .
فقالوا له: { إِنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } أي: في أرضنا، بالقتل، والتخريب، وإتلاف الزرع، قيل: كانوا يخرجون أيام الربيع، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابسًا إلا احتملوه، وكانوا يأكلون الناس أيضًا. { فهل نجعلُ لك خَرْجًا } أي: جُعْلاً من أموالنا { على أن تجعلَ بيننا وبينهم سدًّا }؛ بالفتح وبالضم، أي: حاجزًا يمنعهم منا؟
{ قال ما مكَّني } - بالفك وبالإدغام - أي: ما مكنني { فيه ربي }، وجعلني في مكينًا قادرًا من الملك والمال وسائر الأسباب، { خيرٌ } من جُعْلِكم، فلا حاجة لي به، { فأَعينوني بقوة } الأبدان وعمل الأيدي، كصُنَّاع يحسنون البناء والعمل، وبآلاتٍ لا بد منها في البناء، { أجعلْ بينكم وبينهم رَدْمًا } أي: حاجزًا حصينًا، وبرزخًا مكينًا، وهو أكبر من السد وأوثق، يقال: ثوب مُردم؛ إذا كان ذا رقاع فوق رقاع، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون. { آتُوني زُبَرَ الحديد }: جمع زبرة، وهي القطعة الكبيرة، وهذا لا ينافي رد خراجهم؛ لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة، كما ينبئ عنه قراءة: "ائتوني"؛ بوصل الهمزة، أي: جيئوني بزبر الحديد، على حذف الباء، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة، دون الخراج على العمل.
قال القشيري: استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم، ولم يأخذ منهم عُمالة؛ لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المُكنة. هـ.
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات؛ من الفحم والحَطب وغيرهما؛ لأن الحاجة إليها أمسُّ؛ لأنها الركن في السد، ووجودها أعز. قيل: حفر الأساس حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد، وجعل بيْنهما الفحم والحطب، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، وكان بينهما مائة فرسخ، وذلك قوله تعالى: { حتى إذا ساوى بين الصَّدَفَينِ }، وقرئ بضمهما، أي: ما زال يبني شيئًا فشيئًا حتى إذا جعل ما بين ناصيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السُّمْك. قيل: كان ارتفاعه: مائتي ذراع، وعرضه: خمسون ذراعًا. وقرئ { سوَّى }؛ بالتشديد، من التسوية.
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء، { قال } للعَمَلة: { انفخوا } النيران في الحديد المبني، ففعلوا { حتى إذا جعله } أي: المنفوخ فيه { نارًا } أي: كالنار في الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذي القرنين، مع أنه من فعل العملة؛ للتنبيه على أنه العمدة في ذلك، وهم بمنزلة الآلة. { قال } للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: { آتُوني أُفرغ عليه قِطْرًا } أي: آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه، وإسناد الإفراغ إلى نفسه، لِمَا تقدم.
{ فما اسطاعوا } أي: استطاعوا { أن يَظْهَرُوه } أيْ: يعلوه بالصعود لارتفاعه، والفاء فصيحة، أي: ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر، فأفرغوه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صلَدًا، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه { فما اسطاعوا أن يَظْهَرُوه }؛ لارتفاعه وملاسته، { وما استطاعوا له نَقْبًا }؛ لصلابته، وهذه معجزة له؛ لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها، فضلاً عن إفراغ القطر عليها، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. والله على كل شيء قدير.
{ قال } ذو القرنين، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم: { هذا } أي: السد، أو تمكينه منه، { رحمةً } عظيمة { من ربي } على كافة العباد، لا سيما على مجاوريه، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق، بل هو إحسان إلهي محض، وإن ظهر بمباشرتي. والتعرض لوصف الربوبية؛ لتربية معنى الرحمة.
{ فإذا جاء وعدُ ربي }: وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة؛ بأن شارف قيامُها، { جعله } أي: السد المذكور، مع متانته ورصانته، { دكّاءَ }: مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى، بعد بيان سعة رحمته، { وكان وعد ربي حقًا }: كائنًا لا محالة.
رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إِنَّ يأجُوجَ ومأجُوجَ يَحْفِرُون السد، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرونه غَدًا، فيُعِيدُهُ اللهُ كأشَدّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ، حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الذِي عَلَيْهم: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ الله، فَيَعُودُونَ إِلَيْه، وهُوَ على هَيْئَتِهِ كما تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ فيخْرُجُونَ عَلَى النَّاس" . وسيأتي في الأنبياء تمام قصة خروجهم، إن شاء الله، وهذا آخر كلام ذي القرنين. قال تعالى: { وتركنا بعضهم يومئذ }: يوم مجيء الوعد، ويخرجون، { يموجُ في بعض }؛ يزدحمون في البلاد، أو: يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم، حيارى من شدة الهول. رُوي أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به، ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله عليهم مرضًا في رقابهم، فيموتون مرة واحدة، فيرسل الله طيرًا فترميهم في البحر، ثم يرسل مطرًا تغسل الأرضَ منهم، ثم تُوضع فيها البركة، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، ثم تنقرض الدنيا كما قال تعالى:
{ ونُفخ في الصُّور }؛ لقيام الساعة، { فجمعناهم جمعًا }، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى؛ اكتفاء بذكرها في موضع آخر، أي: جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم، وتمزقت أجسادهم، في صعيد واحد؛ للحساب والجزاء، جمعًا عجيبًا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ، { وعرَضْنَا جهنم }؛ أظهرناها وأبرزناها { يومئذ } أي: يوم إذ جمعنا الخلائق كافة، { للكافرين } منهم، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، { عَرضًا } فظيعًا هائلاً لا يقدر قدره، وخص العَرض بهم، وإن كان بمرْأى من أهل الموقف قاطبة؛ لأن ذلك لأجلهم.
ثم ذكر وصفهم بقوله: { الذين كانت أعينهم } وهم في الدنيا { في غطاءٍ } كثيف وغشاوة غليظة { عن ذكري }: عن سماع القرآن وتدبره، أو: عن ذكري بالتوحيد والتمجيد، أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني، { وكانوا لا يستطيعون سمعًا } أي: وكانوا مع ذلك؛ لفرط تصامُمِهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون استماعًا منه لذكري وكلامي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.
الإشارة: السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها: زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها: نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، (فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس). ومنها: تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها: أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال: خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: لئلا ننسى الموت؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال: فما بال بيوتكم لا أبواب لها؟ قالوا: ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال: فما بالكم ليس فيكم حُكَّام؟ قالوا: لا نختصم، قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نفتخر، قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال: فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة؟ قالوا: من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال: أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال: فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا: من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال: فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا: من قِبَل الذلة والتواضع، قال: فما جعلكم أطول الناس أعمارًا؟ قالوا: من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية. قال: فما بالكم لا تضحكون؟ قالوا: لا نغفُل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال: فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس؟ قالوا: لأنا لا نتوكل على غير الله، قال: هل وجدتم آباءكم هكذا؟ قالوا: نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين: لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت: قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين: { كانت أعينهم في غطاء عن ذكري }: دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده:
{ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [هُود: 20]، وقال: { { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ... } [هُود: 24] الآية. هـ.
وسبب غطاء القلوب عن الاستماع والاستبصارهو اتباع الهوى