خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
١٧
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
-الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { تزاور } أصله: تتزاور، فأُدغمت التاء في الزاي. وقرأ الكوفيون بحذفها، وابن عامر ويعقوب: "تَزَوَّرُ" كتَمرد، كلها من الزَّوْر بمعنى الميل. و { ذات اليمين }: ظرف بمعنى الجهة. وجملة: { وهم في فجوة }: حال، و { ذراعيه }: مفعول "باسط"؛ لأنه حكاية حال، أي: يبسط، و { فرارًا }: مصدر؛ لأنه عبارة عن معنى التولية، أو حال، أي: لوليت فارًا، و { رُعْبًا }: مفعول ثان لملئت، أو تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله: في بيان حالهم بعدما أووا إلى الكهف: { وترى الشمسَ إِذا طلعت تزَاورُ } أي: تنتحي وتميل { عن كهفهم } الذي أووا إليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم { ذاتَ اليمين } أي: جهة ذات يمين الكهف، عند الداخل إلى قعره، { وإِذا غَرَبَت } أي: وتراها إذا غربت { تَقْرِضُهم } أي: تقطعهم وتتعدى عنهم { ذاتَ الشمال } أي: جهته وجانبه الذي يلي المشرق. وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة؛ كرامة لهم. وقيل: كان باب الكهف شماليًا يستقبل بنات نعش، { وهم في فجوةٍ منه }: في موضع واسع منه، وذلك موقع لإصابة الشمس، ومع ذلك يُنحيها الله عنهم.
{ ذلك من آيات الله } أي: ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم: هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف، قلت: كان قبل السد وبعد هدم السد؛ لأنه هُدم بعدُ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدومًا. وظاهر الآية يُرجح من قال: إنه من باب خرق العادة.
{ مَن يَهدِ الله فهو المهتدِ } الذي أصاب الفلاح. والمراد: إما الثناء عليهم، والشهادة بإصابة المطلوب، والإخبار بتحقيق ما أمَّلُوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة، ولكن المنتفع بها هو مَنْ وفقه الله وهداه للاستبصار بها، { ومن يُضلل } أي: يخلق فيه الضلال؛ بصرف اختياره إليه، { فلن تجد له }، ولو بالغت في التتبع والاستقصاء، { وليًّا }: ناصرًا { مُرشدًا }، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح. والجملة معترضة بين أجزاء القصة.
ثم قال: { وتحسبُهُم } بالفتح والكسر، أي: تظنهم { أيقاظًا }، لانفتاح أعينهم، أو لكثرة تقلبهم، وهو جمع "يقظ"؛ بظم القاف وكسرها، { وهم رقود } أي: نيام، { ونُقلِّبهم } في رقودهم { ذاتَ اليمين } أي: جهة تلي أيمانهم، { وذات الشمال } أي: جهة تلي شمائلهم؛ لكي لا تأكل الأرضُ ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنه: لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض. قيل: كانوا يتقلبون مرتين في السنة. وقيل: مرة يوم عاشوراء. وقيل: في تسع سنين.
{ وكلبهم باسطٌ ذراعيه }، حكاية حال ماضية أي: يبسط ذراعيه، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع. { بالوصيد } أي: بموضع من الكهف، وقيل: بالفِناء من الكهف، وقيل: العَتَبة. وهذا الكلب، قيل: هو كلبٌ مَروا به فتبعهم، فطردوه مرارًا، فلم يرجع، فأنطقه الله، فقال: يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي؛ فإني أُحب أحباء الله، فناموا حتى أحرُسَكم. وقيل: هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم على دينهم، ومر معه كلبه، ويؤيده قراءة: (وَكَالِبُهُمْ) أي: وصاحب كلبهم، وقيل: هو كلب صيد لهم أو زرع، واختُلف في لونه؛ قيل أحمر، وقيل: أصفر، وقيل: أصهب.
{ لو اطّلعتَ عليهم } أي: لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع: الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، { لولَّيت منهم فرارًا }: هربًا بما شاهدت منهم، { ولمُلئتَ منهم رُعْبًا }، أي: خوفًا يملأ الصدور برُعبه، لِمَا ألبسهم الله من الرهبة، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية: أنه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال: لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك ذلك؛ قد منع الله تعالى مَنْ هو خير منك، حيث قال: { لو اطلعت عليهم... } الآية، فلم يسمع، وقال: ما أنتهي حتى أعْلَم علمهم، فبعث ناسًا، وقال: اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا بعث الله ريحًا فأحرقتهم. هـ.
الإشارة: للصوفية - رضي الله عنهم - تشبه قويّ بأهل الكهف، في الانقطاع إلى الله، والتجرد عن كل ما سواه، والانحياش إلى الله، والفرار من كل ما يشغل عن الله، والتماس الرحمة الخاصة من الله، وطلب التهيئة لكل رشد وصواب، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به، حين أووا إلى كهف الإيواء؛ تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله - أي: الصوفية - ممن رام أذاهم، وغيّبهم عن حس أنفسهم، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته، ومن تمام التشبه بهم: أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء؛ تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعثهم بعد نومهم