خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً
٤٦
قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً
٤٧
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً
٤٨
-مريم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: هذا استئناف بياني، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام، كأنه قيل: فماذا قال أبوه عندما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده: أراغب... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قال } له أبوه في جوابه: { أراغبٌ أنتَ عن آلهتي } أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة، مع ضرب من التعجب، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها، ثم هدده فقال: { لئن لم تَنْتَهِ } عن وعظك { لأرجُمنَّكَ } بالحجارة، أي: والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر، وقيل باللسان، { واهجرني } أي: واتركني { مَلِيًّا } أي: زمنًا طويلاً، أو ما دام الأبد، ويسمى الليل والنهار مَلَوان، وهو عطف على محذوف، أي: احذرني واهجرني.
{ قال } له إبراهيم عليه السلام: { سلامٌ عليك } مني، لا أصيبك بمكروه، وهو توديع ومُتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة، أي: لا أشافهك بما يؤذيك، ولكن { سأستغفر لك ربي } أي: أستدعيه أن يغفر لك. وقد وفى عليه السلام بقوله في سورة الشعراء:
{ { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [الشُّعَرَاء: 86]. أو: بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان. والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحي، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحيله. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب: "لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنك" . ثم نهاه عنه كما تقدم في التوبة. فالنهي من طريق السمع، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم، وكذا قوله: { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [المُمتَحنَة: 4]، وقوله: { { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [الشُّعَرَاء: 86]، إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه، بدليل قوله: { { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأ } [التّوبَة: 114].
وقوله تعالى: { إِنه كان بي حَفيًّا } أي: بليغًا في البر والألطاف، رحيمًا بي في أموري، قد عوَّدني الإجابة. أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه، وفي القاموس: حَفِيَ كَرَضِيَ، حَفَاوةً. ثم قال: واحتفًا: بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله، فهو حافٍ وحفي. هـ.
{ وأعتزلُكم } أي: أتباعد عنك وعن قومك، { وما تَدْعُونَ من دونِ الله } بالمهاجرة بديني، حيث لم تؤثر فيكم نصائحي، { وأدعو ربي }: أعبده وحده، أو أدعوه بطلب المغفرة لك - أي قبل النهي - أو: أدعوه بطلب الولد، كقوله:
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينِ } [الصَّافات: 100]، { عسى ألا أكون بدعاءِ ربي شقيًّا } أي: عسى ألا أشقى بعبادته، أو: لا أخيب في طلبه، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم. ففيه تعريض بهم، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم، لا من طريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى.
الإشارة: انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته، وإن كان أقرب الناس إليه، فكيف بك أيها المؤمن ألاَّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره، أو يجحد نبيه ورسوله، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه، غيرةً منك على محبوبك، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق، إذ ليس في الوجود إلا الحق، وكل ما سواه باطل على التحقيق.
فمن اعتزل كل ما سوى الله، وأفرد وجهته إلى مولاه، لم يَشْق في مَطلبه ومسْعاه، بل يطلعه الله على أسرار ذاته، وأنوار صفاته، حتى لا يرى في الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وبالله التوفيق.
ثمَّ ذكر نتيجة الانفراد عمن يصد عن الله