خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً
٧٧
أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٧٨
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً
٧٩
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً
٨٠
-مريم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله: في حق العاص بن وائل: { أفرأيت الذي كفر بآياتنا }: القرآن المشتمل على البعث والحساب قال خبَّاب بن الأرَت: كان لي على العَاصِ بن وَائِل دَيْنٌ، فاقْتَضيتُه، فقَالَ: لاَ، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لا والله لا أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ، قال العاص: فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ، فأعطيك، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة - استهزاء واستخفافًا - وفي رواية البخاري: "كُنت قَيْنَا في الجاهلية، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ..." فذكر الحديث. فالهمزة للتعجيب من حاله، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها
{ وقال } مستهزءًا بها، مصدّرًا باليمين الفاجرة: والله { لأُوتَينَّ } في الآخرة { مالاً وولدًا } أي: انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، { أَطَّلَع الغيبَ } أي: أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب، الذي استأثر به العليم الخبير، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا، وأقسم عليه، { أم اتخذ عند الرحمن عَهْدًا } بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين، وهذا رد لكلمته الشنعاء، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها.
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام. والعهد: قيل: كلمة الشهادة، أو العمل الصالح، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد، قال القشيري: { أَطَّلَع الغيبَ } فقال بتعريف له منا، { أم اتخذ عند الرحمن عهدًا } أي: ليس الأمر كذلك. ثم قال: ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً، فالله تعالى يحققه له؛ لأنه على عهد مع الله تعالى، والله لا يُخلف الميعاد. هـ.
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال: { كلا } أي: انزجر عن هذه المقالة الشنيعة، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة، وتنبيه على خطئه، قال تعالى: { سنكتبُ ما يقول } أي: سنظهر ما كتبنا عليه، فهو كقول الشاعر:

إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ

أي: تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ، أو: سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى: { { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، قال ابن جزي: إنما جعله مستقبلاً؛ لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل. هـ.
قلت: والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل، تنبيهًا على عدم نسخه، وأنه ماض نافذ. قاله في الحاشية.
{ ونَمُدُّ له من العذاب مَدًّا } ، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد، أي: نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه، أو نزيد في مضاعفة عذابه، لكفره وافترائه على الله سبحانه، واستهزائه بآياته العظام، ولذلك أكده بالمصدر، دلالةً على فرط الغضب والسخط.
{ ونَرِثُه ما يقولُ }، قال مكي: حرف الجر محذوف، أي: نرث منه ما يقول. هـ. والظاهر أن { ما }: بدل من الضمير، وهو الهاء، أي: نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد. وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول، أي: ننزع منه ما آتيناه، { ويأتينا } يوم القيامة { فرْدًا } لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا. وقال القشيري: فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه: { لأوتين مالاً وولدًا }، وذلك منه استهزاء ومحض كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله، ويتفاوت الناس في العهد عند الله، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته، وسيأتي في قوله:
{ { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريَم: 87] زيادة بيانه. والله تعالى أعلم.
ثمَّ ردَّ على أهل الضلالة ما زعموا من نفع الاصنام لهم