خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
٧
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً
٨
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
٩
قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
١٠
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
١١
-مريم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { عِتيًّا }: مصدر، من عتا يعتو، وأصله: عتوو، فاستثقل توالي الضمتين والواوين، فكسرت التاء، فقلبت الأولى ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم قُلبت الثانية أيضّا؛ لاجتماع الواو والياء، وسبق إحداهما بالسكون. { قال كذلك }: خبر، أي: الأمر كذلك، فيوقف عليه، ثم يقول: { قال ربك }، أو مصدر لقال الثانية، أي: مثل ذاك القول قال ربك. و { سويًّا }: حال من فاعل { تكلم }.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا زكريا }، كلمهُ بواسطة المَلك: { إِنا نبشركَ } ونجيب دعوتك { بغُلامٍ اسمه يَحيى }؛ لأنه حيى به عُقْمُ أمه. أجاب نداءه في الجملة، لا من كل وجه، بل على حسب المشيئة، فإنه طلب ولدًا يرثُه، فأجيب في الولد دون الإرث؛ فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه - عليهما السلام - وقيل: بقي بعده برهة، فلا إشكال حينئذ. وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له، وفي تخصيصه به - كما قال تعالى: { لم نجعل له من قبلُ سَميًّا } أي: شريكًا في الاسم، حيث لم يتسم به أحد قبله - مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام؛ فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة. وقيل: { سَميًّا }: شبيهًا في الفضل والكمال، كما قال تعالى:
{ { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم: 65] فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه، لأنه لم يهم بمعصية قط، وأنه ولد لشيخ فانٍ، وعجوز عاقر، وأنه كان حصورًا، ولم تكن هذه الخصال لغيره.
{ قال ربِّ أنّى يكونُ لي غلامٌ } أي: من أين وكيف يحدث لي غلام، { وكانت امرأتي عاقرًا }: عقيمة، { وقد بلغتُ من الكِبَر عتيًّا }: يبسًا في الأعضاء والمفاصل، ونحولاً في البدن، لِكِبَرِهِ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين، وامرأته ثمان وتسعين. وتقدم الخلاف فيه. وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران؛ استعظامًا لقدرة الله تعالى، وتعجيبًا منها، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة. وقيل: كان دهشًا من ثمرة الفرح، وقيل: كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه. وقيل: بل كان ذلك بطريق الاستبعاد، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة، وكان قد نسي دعاءه، وهو بعيد.
{ قال كذلك } أي: الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة، لكن هو على قدرتنا هين، ولذلك قال: { قال ربك هو عليّ هيِّنٌ }، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك، ثم فسَره بقوله: { هو عليّ هيِّن }، أو "مثل" مقحمة، أي: ذلك قال ربك. والإشارة إلى مصدره، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق، أو كذلك قضى ربك. ثم قال: { هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئًا } أي: وقد أوجدت أصلك "آدم" من العدم، ثم نشأتَ أنت من صلبه، ولم تك شيئًا، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده، ولذلك قال في آية أخرى:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعرَاف: 11] الآية. انظر تفسير أبي السعود.
{ قال ربِّ اجعلْ لي آية } أي: علامة تدلني على تحقق المسؤول، وبلوغ المأمول، وهو حمل المرأة بذلك الولد، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان؛ لما يُروى أن (يحيى كان أكبر من عيسى - عليهما السلام - بستة أشهر، أو بثلاث سنين)، ولا ريب في أن دعاء زكريا عليه لسلام كان في صغر مريم، لقوله تعالى:
{ { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [آل عمران: 38]، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم - عليها السلام -.
{ قال } له تعالى: { آيتك ألاّ تُكَلّم الناس } أي: أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر، { ثلاث ليالٍ } بأيامهن، للتصريح بها في آل عمران، حال كونك { سويًّا } أي: سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح، ما بك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء. وحكمة منعه؛ لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام.
{ فخرج على قومِهِ من المحراب }: من المصلّى، وكان مغلقًا عليه، فالمحراب مكان التعبد، أو من الغرفة، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب، ليدخلوا ويُصلوا، إذ خرج عليهم متغيرًا لونه، فأنكروه، وقالوا له: ما لك "فأوحى إليهم أي: أوْمَأ إليهم، وقيل كتب في الأرض { أن سبِّحُوا } أي صلوا { بُكرةً وعَشِيًا }: صلاة الفجر وصلاة العصر، ولعلها كانت صلاتهم. أو: نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا، ويأمر قومه بذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار، قال تعالى:
{ { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النَّمل: 62] وفي الحِكَم: "ما طلَبَ لك شيءٌ مثلُ الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار. فإذا اضطررت إلى مولاك، فلا محالة يجيب دعاك، لكن فيما يريد لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. فلا تيأس ولا تستعجل { { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216]. فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره، واستفرغ أوقاتك، إلا من شهود إحسانه وبره. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وصيته ليحيى عليه السلام ونعوته