خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { أياماً } منصوب على الظرفية، واختُلِف في العامل فيه، والأحسنُ أنه الصيام، ولا يضره الفصل؛ لأن الظرف يُتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، و { معدودات } نعت له، و { عدة } مبتدأ؛ أي: فَعَليْهِ عِدَّةٌ. و { أُخر } ممنوع من الصرف للعدل عن الألف واللام والوصف. و { شهر رمضان } إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر: الألف واللام والوصف: و { شهر رمضان } إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر: { فمن شهد }، أو بدل من { الصيام }، على حذف مضاف، أي: صيام شهر رمضان.
و { رمضان } مصدر رمَض إذا احترق، وأضيف إليه الشهر، وجُعل عَلَما، ومُنع من الصرف للعلَمية والألف والنون. وسَمَّوْه بذلك إما لارتماض القلب فيه من حرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض القلب فيه من حَرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو وافق الحرَّ حين نقلوا الشهور عن اللغة القديمة. و { الشهر } ظرف، لقوله: { شهد } أي: حضر، وقوله: { ولتكلموا... } الآية، هذه ثلاثُ عِللَ لثلاثة أحكام على سبيل الفِّ والنَّشْرِ المعكوس، أي: ولتكملوا العدة أمرتُكم بقضاء عدة أيام أخر، ولتكبروا الله عند تمام الشهر أمرتُكم بصيام الشهر كله، ولعلكم تشكرون أردتُ بكم اليسر دون العسر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا } فُرض عليكم { الصيام } كما فرض { على الذين من قبلكم } من الأنبياء وأَمَمِهم من لدن آدم، فلكم فيهم أسوة، فلا يشق عليكم { لعلكم تتقون } المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة. ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام-:
"مَنْ اسْتَطَاعَ منْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَليْه بالصَّوْمِ، فَإِنَّه لَهُ وِجَاء" .
وذلك الصيام إنما هو في أيام قلائل { معدودات } فلا يهولكم أمره، { فمن كان منكم مريضاً } يشق عليه الصيام، { أو على سفر } فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر { من أيام أُخر } بعد تمام الشهر، { وعلى الذين يطيقونه } بلا مشقة، إن أرادوا أن يفطروا { فديةُ } وهي: { طعام مساكين }: مُدٍّ لكل يوم. وفي قراءة { فديةٌ طعامُ مسكين } أي: وهي طعام مسكين لكل يوم. وقيل: نصف صاع. { فمن تطوع } بزيادة المُد، أو أطعم مسكينَينْ عن يوم، { فهو خير له } وأعظم أجراً، { وإن تصوموا } أيها المطيقون للصيام، { خير لكم إن كنتم تعلمون } ما في الصيام من الأسرار، والخير المدرار، ثم نسخ بقوله: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }.
وذلك الصيام الذي أُمرتم به هو { شهر رمضان } المبارك { الذي أنزل فيه القرآن } أي: ابتداء نزوله فيه. أو إلى سماء الدنيا، حالة كونه { هدى للناس } أي: هادياً لهم إلى طريق الوصول، وآيات واضحات { من الهدى والفرقان } الذي يفرق بين الحق والباطل. وإن شئتَ قلتَ: فيه هدى للناس إلى مقام الإسلام، { وبينات }، أي: حججاً واضحة تهدي إلى تحقق الإيمان، وإلى تحقق الفرق بين الحق والباطل، وهو ما سوى الله، فيتحقق مقام الإحسان.
{ فمن } حضر منكم في { الشهر } ولم يكن مسافراً { فليصمه } وجوباً، وكان في أول الإسلام على سبيل التخيير؛ لأنه شق عليهم حيث لم يألفُوه، فلما ألفوه واستمروا معه، حتّمه عليهم في الحضور والصحة. { ومَن كان مريضاً } يشق عليه الصيام، { أو على } جَناح { سفر } بحيث شرَع فيه قبل الفجر فأفطر فيه، فعليه { عدة من أيام أُخر } { يريد الله بكم اليسر } والتخفيف، حيث خفّف عنكم، وأباح الفطر في المرض والسفر، { ولا يريد بكم العسر } إذ لم يجعل عليكم في الدّين من حرج، وإنما أمركم بالقضاء { لتكلموا العدّة } التي أمركم بها، وهي تمام الشهر، { ولتكبروا الله على ما هداكم }، أمركم بصيامه فتكبروا عند تمامه.
ووقت التكبير عند مالك: من حين يخرج إلى المُصَلَّى، بعد الطلوع، إلى مجيء الإمام إلى الصلاة، ولفظُه المختار: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا من الشاكرين)؛ لجمعه بين التهليل والتكبير والشكر امتثالاً لقوله: { ولعلكم تشكرون } على ما أوليناكم من سابغ الإنعام، وسهَّلنا عليكم في شأن الصيام.
الإشارة: كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين. فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع فهو خير له. وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان. فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام على ثلاث درجات: صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص.
أما صوم العوام: فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات. وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه" . وأما صوم الخواص: فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه: حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي. وأما صوم خواص الخواص: فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله: الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً. فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين.